وقد تعرّض رشيد رضا وتفسيره إلى نقد طائفة أخرى من العلماء، يمكن تصنيفهم ضمن علماء المؤسسة الدينية الرسمية، والمؤسسة الصوفية الشعبية، فقد وجَّه إليه بعض علماء هاتين المدرستين انتقادات شديدة بسبب زحزحته المكانة التقليدية المرموقة التي كان يتمتع بها كل من الفقهاء التقليديين، وشيوخ الطرق الصوفية في المجتمع، وذلك من خلال الحملة العنيفة التي قام بها على صفحات تفسيره على التقليد المذهبي وعلمائه (12/ 220ـ 221.) وعلى البدع والخرافات الدينية الشائعة الذيوع في كثير من البيئات الصوفية الطُرقية. ومن خلال دعوته اللاهبة في مقابل ذلك إلى إحياء روح الاجتهاد، وروح الزهد والتزكية وفق نصوص الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح فقط. ولقد تركزت معظم انتقادات هذا الفريق من العلماء على الميول السلفية والوهابية التي ظهرت جلياً في تفسير المنار، بالإضافة إلى تأويله لبعض المعجزات، وإنكاره لكثير من الكرامات التي يدعيها شيوخ الطرق الصوفية. ونذكر من علماء هذه الطائفة التي تصدت لرشيد رضا الشيخ الأزهري المتصوف يوسف الدجوي (ت 1946م) الذي قاد حملة صحفية قوية ضد رشيد رضا، على صفحات مجلة الجامع الأزهر آنذاك "نور الإسلام"، واتهمه باتهامات خطيرة، مثل: إنكار الملائكة والجن، وإنكار بعض المعجزات، والإيمان بمذهب دارون، وردّ بعض الأحاديث الصحيحة، ونشر مقالاته تلك في كتاب سماه "صواعق من نار في الرد على صاحب المنار"، الأمر الذي دفع رضا للرد، وتبيين حقيقة، وسلامة موقفه إزاء القضايا التي اتهمه فيها، في مقالات عديدة جمعها ونشرها في كتاب سماه: "المنار والأزهر" [16].
وهناك فريق آخر من الباحثين المعاصرين ممن ينتمون إلى تيار إعادة قراءة القرآن الكريم وفق مناهج ومكتسبات العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة، يرى أنَّ مساهمة رشيد رضا في تفسير "المنار" ما هي إلا خطوة تراجعية عن بعض ما أنجزته مدرسة المنار على يد رائديها الأفغاني وعبده ـ وهو في نظرهم إنجاز محدود، وموضع نقد وتقويم ـ وذلك بسبب ما قام به رضا من إعادة العمل التفسيري إلى تخوم المدرسة التقليدية القديمة في التفسير، وتظهر أهم ملامح تلك العودة، في نظرهم، من خلال إكثاره من النُقول الواسعة عن علماء التفسير السابقين، فضلاً عن استطراداته الواسعة فيما يتعلق بقضايا العقيدة والتشريع، هذا بالإضافة إلى عجزه عن الاستفادة من المناهج الغربية الحديثة في دراسة، ونقد النصوص المقدسة؛ وكأحد نماذج هذه المدرسة يقول الدكتور عبد المجيد الشرفي في معرض تقييمه لتفسير المنار: "فنلاحظ إذن أنه لا يمت بصلة إلى حركة التفسير "الكتابي" -نسبة إلى الكتب المقدسة عند اليهود والمسيحيين- التي عرفها الغرب منذ أواخر القرن السابع عشر بالخصوص، والتي كانت أبرز ملامحها متمثلة في استقلالها عن علم اللاهوت، واعتمادها منهجاً نقدياً في تناول النصوص المقدسة. فتفسير المنار أبعد ما يكون عن التفسير النقدي، وليس فيه أدنى إعادة نظر في المسلَّمات المتعلقة بالترتيب الرسمي والتعبُّدي للسور والآيات، ومواطن الإشكال في عدد من التعابير القرآنية، ويتبنى بالطبع المفهوم التقليدي للوحي الذي يكون فيه الرسول مجرد مبلِّغ سلبي للرسالة الإلهية، فلا مجال فيه لأثر ما لشخصية النبي وللظروف التاريخية التي أحاطت به، ولا لمشكلة الانتقال من الكلام الإلهي المفارق إلى الكلام البشري المحدود بالضرورة. وبعبارة أخرى فقد كان تفسير المنار تفسيراً إيمانياً بالدرجة الأولى" [17].
يكاد الدكتور عبد المجيد الشرفي بكلامه هذا يستعيد بشكل شبه كامل ما قاله المستشرق آرثر جيفري قبل أكثر من سبعين عاماً في مجلة "العالم الإسلامي"، في مقالة بعنوان " النقد العالي للقرآن" طالب فيها علماء المسلمين باقتفاء أثر علماء الغرب بإخضاع القرآن الكريم إلى معايير النقد التاريخي والأدبي التي أخضعوا لها نصوصهم المقدسة، دون أدنى اعتبار منه للاختلافات الصريحة بين طبيعة النص القرآني المقطوع بصحته التاريخية، وإيمان المسلمين القاطع بأنه كلام الله تعالى الذي أنزله لفظاً ومعنىً على قلب رسوله محمد r، وبين نصوصهم المقدسة التي تعرضت للتحريف والتزوير التاريخي باعترافهم هم، وأنها نصوص مقدسة دوَّنها أتباع الرسل عليهم السلام، ولا تُعَد كلام الله تعالى نفسه لفظاً ومعنىً
¥