وتظهر آثار هذا التحول جليَّةً من خلال كثرة نُقولاته، الطويلة أحياناً، من مصادر التفسير بالأثر، وبشكل خاص: الطبري (ت310هـ)، والبغوي (ت516هـ)، وابن كثير (ت 774هـ)، والسيوطي (ت 911هـ). وكذلك نقله من مصادر التفسير اللغوي، وبشكل خاص تفسير الكشاف (ت538هـ)، بالإضافة إلى اعتماده على أمهات معاجم اللغة مثل لسان العرب لابن منظور (ت711هـ)، ومقاييس اللغة لابن فارس (ت 395هـ)، فضلاً عن اعتماده على معاجم ألفاظ القرآن الكريم، من مثل: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ت 502هـ).

ويمكن لنا أن نقرأ دلالة هذا التحول عند رشيد على أنها محاولةٌ منه لإدراج أفكاره الإصلاحية المعروضة في تفسيره في سياق التراث الإسلامي المعتمد في ميدان التفسير، وبذلك يمكن أن يحصل على شرعية القول الجديد في التفسير بأقل قدرٍ ممكن من معارضة الجمهور العريض، وممثليه من العلماء الرسميين، وهذا هو الذي حدثَ فعلاً، حيث وجد هذا التفسير قبولاً عاماً عند قرائه، وبذلك يكون رضا قد تحاشى قسماً كبيراً من الموجة العاصفة من الاعتراضات، والانتقادات التي قيلت بحق تفسير محمد عبده المستقلّ، والتي حكمت على منهجه بأنه تفسيرٌ بالرأي، وتفسير عقلاني، توفيقي، الأمر الذي أدى إلى إقصاء تفسيره من دائرة التأثير العام التي كان يطمح إليها.

ولنعد الآن إلى ذكر الملامح العامة التي ميّزت منهج وطريقة رشيد رضا في تفسيره:

1 - كان رشيد رضا يلجأ في تفسيره للآيات الكريمة إلى القرآن الكريم نفسه أولاً، مؤكداً أنَّ "الآيات يفسِّر بعضها بعضاً إّذا نحن أخذنا القرآن بجملته كما أُمرنا " (تفسير المنار2/ 259) ثم كان يلجأ بعد ذلك كما صرح هو إلى "سنة رسول صلى الله عليه وسلم، وما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين في الصدر الأول .. وبأساليب لغة العرب، وسُنن الله في خلقه" (تفسير المنار، 6/ 196). أي الالتزام بالمنطق الداخلي المتماسك، والمنسجم للنص القرآني، والاعتصام بعواصم الأثر والخبر الصحيح، والأخذ بطرق اللغة العربية قي دلالة الألفاظ، والتراكيب على المعاني، ومقتضيات العقل السليم من خلال تحكيم سنن الله تعالى العاملة في الكون والتاريخ، واعتبارها إحدى مرجعيات، ومعايير التفسير السليم.

2 - كان حريصاً في بداية تفسير كل مجموعة من الآيات الكريمة، أن يربط هذه الآيات ربطاً منطقياً محكماً بمجموعة الآيات التي تسبقها، أو بموضوع السورة الرئيسي الذي تتحدث عنه مجمل آيات السورة، وبذلك عمل رشيد رضا على إبراز الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، والسياق الواحد الذي يؤلف بين آياتها [7].

3 - كان حريصاً عندما تتعرض الآية التي يفسّرها لقضيةٍ ما، أن يسرد ويحلّل بشكل موجز معظم الآيات الكريمة الأخرى التي تتحدث عن القضية نفسها، وبذلك يكون رضا من أوائل من تنبَّه لأهمية التفسير الموضوعي للقرآن الكريم في العصر الحديث.

4 - كان معنياً بذكر أسباب النزول وتمحيص الروايات الواردة فيها، كما كان مهتماً بذكر القراءات القرآنية عند وجودها (تفسير المنار1/ 167، 3/ 247)، كما كان حريصاً أيضاً على ذكر الأحاديث النبوية التي تدور في فلك الآية أو الآيات التي يفسرها، ولم يغفل عند ذكره هذه الأحاديث، عن التعليق عليها، ونقد أسانيدها، وتمحيص رواتها، هذا فضلاً عن تخريجها، وعَزْوها إلى مصادر الحديث المعتمدة [8].

5 - لم يتوسَّع في نقل أقوال النحاة، وعلماء البلاغة في إعراب الآيات القرآنية الكريمة، ووجوه البلاغة فيها إلا ما كان منهما ضرورياً لبيان معنى الآيات، وجمال الأسلوب القرآني، ودقة التعبير فيها (تفسير المنار 10/ 524)، وكان هدفه من هذا الاقتصاد هو ألاَّ يشغل القارئ عن وجوه الهداية، والإصلاح في معاني الآيات المفسرة، وهي مقصوده الأول من التفسير، كما كان ذلك مقصود شيخه محمد عبده من تفسير القرآن [9]. وبشكل عام، فإنَّ رشيد رضا لم يكن يُكثر النقل عن العلماء السابقين في المجلدات الأولى من تفسيره، ولكنه وابتداءً من المجلد السابع، بدأ يُكثر، وينقل بإسهاب من الكتب والتفاسير السابقة، وخصوصاً كتب ابن حزم (ت 456هـ)، والغزالي (ت 505هـ)، وفخر الدين الرازي (ت 606هـ)، وابن تيمية (ت 728هـ)، وابن قيِّم الجوزية (ت751 هـ)، وابن كثير (ت774هـ)، والشاطبي (ت 790هـ).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015