إن النبوة بأمر الله، والله جعل في أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافع من الحب والشجر، وحكماء يستخرجون علوماً، وكُلٌ لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. هكذا حكماء الأمة الإسلامية يشاركون الجهلاء في أنهم يفهمون الحوض كما فهموه، ويردونه معهم كما يردونه، ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قُوَّاد الأُمة الذين يقودونها. فماذا يقولون؟ يقولون إن النبي

ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد معانى أرقى. إن الجنة فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، فليس الماء الذي هو أحلى من العسل وأبيض من الثلج كل شيء هناك، ثم إن الجنة لا ظمأ فيها، وأي شيء عدد نجوم السماء؟ ولماذا اختُصَّت النجوم بالعدد والوضوء بالأثر؟ والذي نقوله: إن الحوض يُرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره، فلا المسك الأذفر، ولا أنواع الجواهر النفسية من دُّرٍّ وياقوت، ولا حلاوة العسل الذي في ذلك الماء، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم ومناظر بدائعه المختلفة المناهج، العذبة المشارب، السارة للناظرين ... "، ثم يخلص من هذا كله إلى الاستدلال على أن ما ذهب إليه من قبيل الكناية التي هي لفظ أُطلق وأُريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلي، ثم يقول - بعد بيان هذه الكناية: " .. هنا يكون النصر ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكفرين، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون. هنا يكون نصر الله والفتح، ويدخل الناس في هذه العلوم الحقيقية أفواجاً. وعلى حكماء المسلمين الذين بعدنا متى نشروا هذه الآراء العلمية وأمثالها، ورأوا المسلمين تقدَّموا ونصروا العلم على الجهل في العالَم الإنساني، وأصبح المسلمون قائمين بما وعدهم ربهم من أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم رحمة للعالمين، متى رأى العلماء ذلك فيعلموا أن هذا هو النصر في زماننا، وهو الفتح، وإذن فعلى القائمين بذلك أن يحمدوا ربهم ويستغفروه" .. إلخ.

هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ، ليقف على مقدار تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه.

والكتاب - كما ترى - موسوعة علمية، ضربت في كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يُوصف بما وُصِف به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه: "فيه كل شيء إلا التفسير" بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به، وإذا دلَّ الكتاب على شيء، فهو أن المؤلف رحمه الله كان كثيراً ما يسبح في ملكوت السموات والأرض بفكره، ويطوف في نواح شتَّى من العلم بعقله وقلبه، ليُجلى للناس آيات الله في الآفاق وفى أنفسهم، لم ليُظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمناً لكل ما جاء ويجيء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث، تحقيقاً لقول الله تعالى في كتابه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} .. ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه، وقد عرفت رأينا في المسألة فلا نعيده.

* * *

إنكار بعض العلماء المعاصرين لهذا اللَّون من التفسير:

لم يقف العلماء في هذا العصر موقف الإجماع على قبول هذا اللَّون من التفسير، بل نراهم مختلفين في قبوله والقول به، كما كان الشأن بين مَن سبقهم من العلماء الأقدمين ..

وإذا كنا قد وجدنا من العلماء المحدَثين مَن انحاز إلى هذه الفكرة في التفسير وتأثر بها في مؤلفاته، فإنَّا نجد بجوار هؤلاء أيضاً كثرة من العلماء لم ترض عن هذا اللَّون من التفسير، ولم تستسغ أن تشرح به كتاب الله تعالى، ولم تغمض عينها أو تمسك قلمها عن رد هذه الفكرة على أهلها وتناولهم إياها بالنقد والتفنيد.

نجد هذه المعارضة في كثير من المحاورات والاعتراضات التي وُجِّهَت إلى صاحب الجواهر، وذكرها لنا في تفسيره.

كما نجد بعض أساتذتنا المعاصرين ينعون على مَن يأخذ بهذه الفكرة ويقول بها، ومن بين هؤلاء أستاذنا الشيخ محمود شلتوت. فقد تناول هذا الموضوع بالبحث في العدد (407)، (408) من السنة التاسعة لمجلة الرسالة. - إبريل سنة 1941 - وفيه يرد على من يذهب إلى هذا اللَّون من التفسير بحجج قوية واضحة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015