" إنني كنت رأيت الجزء الأول من هذا التفسير في دار صديق لي منذ بضع سنين، وقلبت بعض أوراقه في بضع دقائق فرأيته أحق بأن يوصف بما وصف به بعض الفضلاء تفسير الفخر الرازي بقوله: فيه كل شيء إلا التفسير، وقد ظُلم الرازي بهذا القول فإن في تفسيره خلاصة حسنة من أشهر التفاسير التي كانت منتشرة في عصره، مع بعض المباحث والآراء الخاصة به، كما أن فيه استطرادات طويلة من العلوم الطبيعية والعقلية والفلكية والجدليات الكلامية التي بها أعطي لقب (الإمام) لرواج سوقها في عصره.

والأستاذ الشيخ طنطاوي مغرم بالعلوم والفنون التي هي قطب رحى الصناعات والثروة والسيادة في هذا العصر، ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلها، وأنهم لن يقووا ويثروا ويستعيدوا استقلالهم المفقود إلا بتعلمها على الوجه العملي بحذقها مع محافظتهم على عقائد دينهم وآدابه وعباراته وتشريعه، ويعتقد حقًا أن الإسلام يرشدهم إلى هذا، بل يوجبه عليهم، فألَّف أولاً كتبًا صغيرة في الحث على هذه العلوم والفنون والتشويق إليها من طريق الدين وتقوية الإسلام بدلائل العلم، ثم توسع في ذلك بوضع هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم، ومحبي العلم إلى هدي القرآن في الجملة والإقناع بأنه يحث على العلم، لا كما يدعي الجامدون من تحريمه له أو صده عنه؛ ولكن الأمر الأول هو الأهم عنده، فهو لم يعن ببيان معاني الآيات كلها وما فيها من الهدى والأحكام والحِكَم بقدر ما عني به من سرد المسائل العلمية وأسرار الكون وعجائبه (ولهذا قلنا إنه أحق من تفسير الرازي بتلك الكلمة التي قيلت فيه).

ولا يمكن أن يقال إن كل ما أورده فيه يصح أن يسمى تفسيرًا له، ولا أنه مراد الله تعالى من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا، إذ يصح أن يقال حينئذ إنه يمكن تفسير كلمة {رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) بألف سفر أو أكثر من الأسفار الكبار تضعه جمعيات كثيرة كل جمعية تعنى بعالم من العالمين، فتدون كل ما يصل إليه علم البشر فيه، ولا يمكن أن يقال إنه لا يمكن انتقاده، بل الانتقاد على ما فيه من التفسير ومن مسائل العلوم ممكن {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76) وقد قلنا إنه لم يعن بقسم التفسير منه كثيرًا ولا سيما التفسير المأثور، وأما هذه العلوم فالبشر يتوسعون فيها عامًا بعد عام، فينقضون اليوم بعض ما أبرموا بالأمس، فليس كل ما دوَّنه أهلها صحيحًا في نفسه، فضلاً عن كونه مرادًا لله من كتابه، وإنما أُنزل الكتاب هدى للناس لا لبيان ما يصلون إليه بكسبهم من العلوم والصناعات؛ ولكنَّه أرشدَ إلى النظر والتفكر فيها ليزداد النَّاظرون المتفكرون إيمانًا بخالقها، وعلمًا بصفاته وحكمه.

وأما السؤال عن رضاء الله عنه وإثابته عليه فلا يقدر بشر على الجواب عنه بالتحقيق؛ لأن علمه عند الله تعالى وحده؛ وإنما نقول بحسب قواعد الشرع الإلهي إنه إذا كان قد ألَّفه لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته فإن الله تعالى يثيبه عليه، فما أصاب فيه فله عليه أجران، أجر الإصابة وأجر الاجتهاد وحسن النية، وما أخطأ فيه فله عليه الأجر الثاني مع رجاء العفو عن الخطأ، وهذا ما نظنه فيه.

وجملة القول إن هذا الكتاب نافع من الوجهين اللذين أشرنا إليهما في أول هذا الجواب، وصاحبه جدير بالشكر عليه والدعاء له؛ ولكن لا يُعوَّل عليه في فهم حقائق التفسير وفقه القرآن لمن أراده؛ فإنه إنما يذكر منه شيئًا مختصرًا منقولاً من بعض التفاسير المتداولة، ولا يُعتمد على ما يذكره فيه من الأحاديث المرفوعة والآثار لأنه لا يلتزم نقل الصحيح، ولا ذكر مخرِّجي الحديث ليُرجع إلى كتبهم فلابد من مراجعتها في مظانها، وما ينفرد به من التأويلات فهو يعلم أنه يخالف فيه جماهير العلماء وهم يخالفونه؛ وإنما راجعت بعضه في أثناء كتابة هذا الجواب فزادني ثقة بما قلته فيه من قبل، والله أعلم ".اهـ (21)

قال في معجم المفسرين: " تفسيره نحا فيه منحاً خاصاً، ابتعد أكثره عن معنى التفسير وأغرق في سرد أقاصيص وفنون عصرية وأساطير ".اهـ (22)

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015