ولذلك اقترنت الصورة الموروثة للقراءة بحالات من الخوف والاكتئاب، ينفر منها الإنسان، ويستعيذ بالله من سماعها، فإذا تجاوزنا مؤسسات الأمية والعامية التي تشكلت من خلالها تلك الصورة المفزعة للقرآن إلى مراكز ودروس تعليم القرآن الكريم رأينا أن الطريقة التي يعلم بها يصعب معها استحضار واصطحاب التدبر والتذكر والنظر، إن لم يكن مستحيلا، فالجهد كله ينصرف إلى ضوابط الشكل من أحكام التجويد ومخارج الحروف، وكأننا نعيش المنهج التربوي والتعليمي المعكوس، فالإنسان في الدنيا كلها يقرأ ليتعلم، أما نحن فنتعلم لنقرأ! لأن الهم كله ينصرف إلى حسن الأداء، وقد لا يجد الإنسان أثناء القراءة فرصة للانصراف إلى التدبر والتأمل، وغاية جهده إتقان الشكل، وقد لا يعيب الناس عليه عدم إدراك المعنى قدر عيبهم عدم إتقان اللفظ! ولا أزال أذكر أننا وبعد عدة سنوات من التعليم كان مدرس القرآن يراجع بعضنا في تحسين النطق بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم مفتتح القراءة.

ونحن هنا لا نهون من أهمية ضبط الشكل، وحُسن الإخراج، وسلامة المشافهة، لكننا ندعو إلى إعادة النظر بالطريقة؛ حتى نصل إلى مرحلة التأمل والتفكر والتدبر، التي تترافق مع القراءة، وقد يكون ذلك بأن نبدأ التلقين بالأداء الحسن ابتداء، مع التوجيه اللافت للنظر صوب المعنى، ولا نلتفت إلى ضبط الشكل إلا في حالات التصويب، ولتكن حالات الاستثناء.

وهم النهاية

وقد يكون من أخطر الإصابات التي لحقت بالعقل المسلم فحالت بينه وبين التدبر والتحقق بالفكر القرآني والرؤية القرآنية الشاملة والاغتراف منها لعلاج الحاضر التوهم بأن الأبنية الفكرية السابقة التي استمدت من القرآن في العصور الأولى هي نهاية المطاف، وأن إدراك أبعاد النص مرتهن بها، في كل زمان ومكان، وما رافق ذلك من النهي عن القول في القرآن بالرأي، وجعل الرأي دائما قرين الهوى، وسوء النية، وفساد القصد.

وفي هذا ما فيه من محاصرة للنص القرآني، وقصر فهمه على عصر معين، وعقل محكوم برؤية ذلك العصر، وحجر على العقل، وتخويف من التفكر؛ الأمر الذي يحول بين الإنسان والتدبر المطلوب إليه نص القرآن.

هذا علاوة على أن الاقتصار على هذا المنهج في النقل والتلقي يحاصر الخطاب القرآني نفسه، ويقضي على امتداده وخلوده، وقدرته على العطاء المتجدد للزمن، وإلغاء البعد المكاني {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة لِّلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا} {سبأ: 28}، والبعد الزماني: {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وإلغاء التكليف القرآني من السير في الأرض، والنظر في البواعث والعواقب، واستمرار النظر في الأنفس والآفاق، والاكتشاف المستمر للسنن والقوانين، والتعامل معها في ضوء العطاء العلمي، والكشوف البشرية في إطار علوم الكون والحياة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} {فصلت: 53}.

ولعل ترسب هذه القناعة العجيبة الغريبة هي من الأقفال الأولى التي يجب كسرها لينطلق الفهم من قيوده وأغلاله وآصاره، فيتحقق العقل بالرؤية القرآنية في أبعاد الحياة المختلفة، وينضح معرفة وحضارة مستمدة من الوحي المعصوم؛ لأن هذه القناعة إذا استمرت سوف تلغي الحاضر والمستقبل معا، وتسقط عن القرآن صفة الخلود الزماني، والامتداد المكاني.

ومن المفارقات العجيبة حقا للعقل المسلم جرأته على إلغاء التكليف القرآني بالنظر والتدبر، وإسقاطه باجتهاد بشري؛ وذلك لعدم إدراكه للنص النبوي -البيان القرآني- الذي يقررك أنها قد تتأتى فهوم مستقبلية أكثر وعيا وإدراكا للنص القرآني: «بلغوا عني ولو آية» (1)، «فرب مبلغ أوعى من سامع» (2)، «فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (3).

على أننا لا ندعو بهذا إلى القفز فوق الفهوم التاريخية للقرآن، وهذا الميراث الثقافي الذي يعتبر مفخرة من مفاخر الفكر، والاغتراف من القرآن مباشرة، بمؤهلات وبدون مؤهلات، وإنما نريد أن نحرر العقل من قيوده حيث حرم عليه النظر، وندعو إلى النظر الذي لا يتحقق ولا يتأتى، ولا يستحق أن يسمى نظرا إذا تجاهل الفهوم السابقة، ولعل من أبسط مستلزماتها اصطحاب الاجتهادات السابقة، ولكن لا نقتصر عليها؛ فلكل عصر رؤيته في ضوء مشكلاته ومعطياته.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015