وَقُبُورِنَا. فَقَالَ: (إِلاَّ الإِذْخِرَ. الإِذْخِرَ). [متفق عليه].
ولو تأملنا في هذه الأقسام الأربعة، لوجدنا بينها ترابطًا عجيبًا؛ إذ أنها تشير إلى مواطن الرسالات السماوية الكبرى:
- فالتين والزيتون: تنبت في أرض الشام، وهي موطن أكثر أنبياء بني إسرائيل، ومنهم عيسى ابن مريم - عليه السلام -، إذ كان عيسى - عليه السلام - آخر أنبياء بني إسرائيل، وتبعه فئام كثير من البشر.
- وأما طور سينين: فهو الموضع الذي أرسل منه موسى - عليه السلام –.
- وأما البلد الأمين: فمكة، موطن أشرف الرسالات؛ رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم –.
فهذه المواضع الثلاثة مواضع شريفة، معظمة، وتعظيمها ليس في القرآن وحده، بل فيما يجده أهل الكتاب في كتبهم، قال ابن كثير- رحمه الله -: (في آخر السفر الخامس، وهو آخر التوراة التي بأيديهم: "جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران: وظهر من ربوات قدسه، عن يمينه نور، وعن شماله نار، عليه تجتمع الشعوب". أي جاء أمر الله، وشرعه من طور سيناء - وهو الجبل الذي كلم الله موسى عليه السلام عنده - وأشرق من ساعير، وهي جبال بيت المقدس - المحلة التي كان بها عيسى بن مريم عليه السلام – واستعلن، أي ظهر، وعلا أمره، من جبال فاران، وهي جبال الحجاز، بلا خلاف. ولم يكن ذلك إلا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. فذكر تعالى هذه الأماكن الثلاثة، على الترتيب الوقوعي، ذكر محلة موسى، ثم عيسى، ثم بلد محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما أقسم تعالى بهذه الأماكن الثلاثة ذكر الفاضل أولا، ثم الأفضل منه، ثم الأفضل منه، على قاعدة القسم، فقال تعالى: (والتين والزيتون)، والمراد بها محلة بيت المقدس، حيث كان عيسى عليه السلام (وطور سينين)، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى. (وهذا البلد الأمين) وهو البلد الذي ابتعث منه محمدًا صلى الله عليه وسلم. قاله غير واحد من المفسرين في تفسير هذه الآيات الكريمات) [البداية والنهاية - (6/ 199)]
ففي هذا النص إشارة إلى الترابط بين الملل، والشرائع السماوية، الكبرى، وهي: دين موسى- عليه السلام -، ودين عيسى - عليه السلام -، ودين محمد - صلى الله عليهم جميعا وسلم - ودينهم جميعًا هو الإسلام.
ولهذا لا نقول: اليهودية، والنصرانية، أديان سماوية - كما يقول بعض الناس - فإن موسى - عليه السلام - لم يبعث باليهودية، وعيسى - عليه السلام - لم يبعث بالنصرانية، وإنما بعثوا جميعًا بالإسلام، قال الله - عز وجل -:
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا) فدين الأنبياء جميعًا هو الإسلام، ولذلك قال الحواريون: (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 52]، وفي موضع: (وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) [المائدة:111]، وكذا جاء موسى - عليه السلام -، ومحمد وجميع أنبياء الله، كلهم بعثوا بالإسلام.
فدين الله - تعالى – واحد، وهو الإسلام، وإنما تتنوع الشرائع، (الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلاَّتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) [رواه مسلم].
فاليهودية: هي ما آل إليه دين موسى، عليه السلام، بعد تحريف الأحبار، والحاخامات.
والنصرانية: هي ما آل إليه دين عيسى، عليه السلام، بعد ما أحدثه الرهبان، والقسس، والأساقفة.
فلم يكن أحدٌ من أنبياء الله، يهوديًا ولا نصرانيًا، كما قال الله عن أبيهم إبراهيم: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا)، وقال: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)، فلا يمكن أن يكون عيسى، وموسى -عليهما السلام - رغبا عن ملة إبراهيم، التي هي الإسلام. حاشا، وكلا!
وقد أنكر الله - تعالى - على من دعا إلى يهودية، أو نصرانية، فقال - سبحانه -: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
فدين الله - تعالى – واحد، وهو الإسلام، ولكنه الإسلام بالمعنى العام، الذي يعني: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
¥