(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ): (فلينظر): يحتمل أن يكون النظر الحسي؛ لأن المطلوب النظر إليه ممكن, وهو هذا المني الذي منه خلق. لكن الأقرب والله أعلم، أنه النظر العلمي، بمعنى: فليتأمل ويعتبر؛ لأن المنظور إليه معهود في الأذهان، لا يحتاج أن يذهب ليبصره، وهو الماء الدافق. (مِمَّ خُلِقَ): يعني من أي شيء خلق. وهذا شروع في إقامة الحجة على منكري البعث. ويمكن أن نفسر "الإنسان" في هذا الموضع بأنه المنكر للبعث، وإن كان يصلح المقام للاعتبار لكل أحد. فإن المؤمن لو تأمل في أصل خلقه لزاد بذلك إيماناً.
إنها مسافة هائلة بين هذه النطفة المذرة، التي لا تكاد ترى إلا بالمجاهر المكبرة، وبين الإنسان الكامل الخلقة! يتحول الحيوان المنوي، بعد أن يلقح البويضة الأنثوية، إلى خلية مخصبة، ثم تشرع هذه الخلية بالانقسام المتتالي، حتى تصبح نطفة، فعلقة، فمضغة، ثم يخلق الله عظاماً، ويكسو العظام لحماً. ويترقى هذا الخلق العجيب، حتى يخرج كائناً يدب على وجه الأرض! لا ريب أن هذا من دواعي زيادة الإيمان. فلهذا يصلح أن يكون الخطاب موجهاً للإنسان الكافر، المنكر للبعث، لإقامة الحجة عليه في إثبات البعث. ويصلح أن يكون دعوة عامة للتفكر في عظيم خلق الله عز وجل.
فَلْيَنْظُرِ الإنسان الكافر المنكر للبعث الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجهه في مكة، من كفار قريش، (مِمَّ خُلِقَ)؟ يأتي الجواب مباشراً، لأن الجواب محل تسليم من الجميع، لا أحد ينكره: (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ). وهم مقرُّون أن الله تعالى خالقه. والماء الدافق هو المني. وسمي دافقاً لكونه ذا اندفاق، واندفاع. وهذا مما يميز هذا الماء العجيب، أنه يخرج دفقاً بلذة , ليبلغ محله.
(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ): الصلب: على قول جمهور المفسرين، هو فقار الرجل، يعني عموده الفقري، أي ظهره. والترائب: على قول جمهور المفسرين، هي عظام الصدر من المرأة. و عبر بعضهم بأنها موضع القلادة. فدلت الآية على أنه يخرج من بينهما، ولا يلزم من هذا أن يكون خارجاً من ذات العظم، عظم الظهر، أو أضلاع الصدر. وذهب بعض المفسرين إلى أن الترائب هي أطراف الرجل، يعني يديه ورجليه ولا تتعلق بالمرأة، لأن الماء إنما يخرج دفقاً من الرجل. فكأن هذا الماء الذي يخرج من الرجل يستل من جميع جسمه؛ من فقاره، وأطرافه, ولا شك أن العلم الحديث قد يساعد في إيضاح هذا المعنى، وقد لا يبلغ العلم الحديث التفاصيل الدقيقة في دلالة الآية, لكن المعلوم لدى المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء، المسمى بـ (الفسيولوجي) أن هذا الماء يتكون في الخصيتين, ثم تتجمع في موضع معين. وأما الأنثى فإنها يتكون ماؤها في المبيضين، فيتم إنضاج البويضة، فتنزل من مبايض المرأة إلى الرحم، عبر قناة فالوب، مرة في الشهر. ومن حكيم صنع الله عز وجل، أن جدار الرحم يتهيأ بإذن الله تعالى لاستقبال الحمل المتوقع، فتهبط هذه البويضة، وقد امتلأ جدار الرحم بالشعيرات الدموية، وصار ثخيناً, فإن قدر خلال ثمان وأربعين ساعة أن يقع لقاء بين الزوجين، ويلتقي ماء الرجل الذي يحمل الحيوانات المنوية، مع البويضة، في رحم الأنثى، فإنه يسبق واحد من هذه الحيوانات المنوية إلى البويضة، فيقع التلقيح. فتنغرس تلك البويضة الملقحة في جدار الرحم، وتتغذى على ما اختزن في هذا الجدار من الأوعية الدموية، وتتوالى الانقسامات الخلوية، حتى تكبر، وتعلق في جدار الرحم، فتسمى علقة, ثم تمر ببقية المراحل، كما هو معروف في علم الأجنة. كل هذا بتقدير دقيق، وحكمة بالغة. ومن العجيب أن هذه البويضة، تحمل المورثات الجينية، من الأنثى كما إن الحيوان المنوي يحمل المورثات الجينية من الذكر. ومعلوم أن كل خلية بشرية تحتوي ستة وأربعين مورِّثاً "جين"، إلا الخلية المنوية، فإنها تحتوي نصف العدد، فقط. فينحدر من المبايض بويضة تحمل ثلاثة وعشرين مورثاً, ويقذف الذكر حيواناً منوياَ يحمل ثلاثة وعشرين مورِّثاً، فيصبح المجموع ست وأربعون. هذه الخلية الجديدة، هي (الأمشاج) كما قال ربنا عز وجل: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) والأمشاج تعني الأخلاط، لكونها خليطاً من ماء المرأة، ماء الرجل، فيقع
¥