1. أقَرِّرُ مَرَّةً أخرى أمراً نكون فيه على بيِّنةٍ: نحنُ هنا لا نُنكِرُ الحقائقَ العِلميَّةَ، وما وصلَ إليه العِلم الحديثُ من مُكتشفاتٍ ومخترعات، وليس لنا أن نُنكرَها إذا ما ثَبَتَتْ، بل نقولُ إنَّ وجودَ الحقائقِ العِلْمِيَّةِ شيءٌ، وادعاءَ أنَّ القرآنَ دل عليها وأشارَ إليها بتفصيلِها - على وجهٍ لم يكنْ معهوداً للعربِ ولا معروفاً لهم حتَّى جاءِ العِلمُ الحديثُ فَكَشَفَ عنها وعن المعنى المقصودِ بها، أي أنَّ آيات ِالقرآنِ بهذا تُفسِّرُ هذه الظواهرَ العِلميَّةَ وتذكرُ الأسبابَ الكامنةَ وراءَها- شيءٌ آخرُ. ونزاعُنا معَ أربابِ الإعجازِ العِلميِّ ليس في أصلِ الحقائقِ العِلميَّةِ، ولا في ثبوتِها، بل في زعمِهم ودعواهُم أنَّ القُرآنَ دلَّ عليها وأشارَ إليها على وجهٍ تفصيليٍّ لم يكن معروفاً للعربِ، ولا معهوداً لهم، وأنَّ معاني الآياتِ لم تكن مفهومةً لهم حقَّ الفهمِ، أو كانت من المُتشابِهِ الذي لا يُعرفُ معناهُ، حتَّى جاءَ العِلمُ الحديثُ فكشفَ عنها، أو أنَّ هذه الآياتِ بمفرداتها وتراكيبِها كانت لها معانٍ معيَّنَةٌ عند العربِ آنذاك بحسبِ معهودِهم في الكلامِ وتصرُّفِهم فيه، ثمَّ لمّا جاءَ العلمُ الحديثُ أضافَ إليها معاني أخرى جديدةً لم تكن معروفةً لدى العربِ الأوَّلين، ويجعلون من هذا التفسيرِ العِلميِّ، ومن سبقِ القرآنِ في الإشارةِ إلى هذه الحقائقِ العلميَّةِ والطبيعيَّةِ وجهاً جديداً من وجوهِ الإعجازِ القرآنيِّ!!! هذا ما ننازعُ فيهِ، ونُشَدِّدُ النَّكيرَ على القائلِ به.

2. كثيراً ما يعترض أنصار الإعجاز العلمي على منكري الإعجاز العلمي بأنهم ليسوا متخصصين في العلوم الحديثة، من طب وهندسة، وفيزياء وكيمياء وجيولوجيا وفلك .... إلخ، وأنهم لهذا لا يستطيعون أن يتصوروا الإعجاز العلمي حق تصوره، ولا أن يقدروه حق قدره، وهذا وهمٌ لا حظَّ له من التحقيق، والصوابُ الذي لا شك فيه أن نتبيَّن الفرقَ بين:

أ. دراسة العلوم الحديثة، والتعمق فيها، وسبر أغوارها، ونيل أعلى الدرجات في التخصصات المختلفة.

ب. وبين دلالة القرآن على ما كشفت عنه العلوم الحديثة من أسرار وخفايا في هذا الكون.

فمحل الأول التجربة والملاحظة، والاستنتاج المبني عليهما، محل الطب ما كشفت عنه التجارب والملاحظاتُ من أدوية وعقارات، وما وصلت إليه الآلات الطبية من قدرة على إجراء أدق العمليات الجراحية، ومحل الهندسة الرياضيات، وما فيها من تفاضل وتكامل ودوال مثلثية وديكارتية، والمباني وإنشاؤها، والآلات بمختلف أنواعها وأغراضها من حيث تصميمها وتصنيعها على وجه يؤدي الغرض منها، ومحل الزراعة التربة والنبات ..... إلخ. أما معرفة إن كان في القرآن دلالةٌ على شيءٍ من أسرار الطب أو الصيدلة أو الهندسة أو الزراعة والصناعة أوالفلك والفيزياء والجيولوجيا فمحلُّها فقهُ اللغةِ وأصولُ الفقهِ، والأصولُ التي يجب أن نسير عليها في فهم الكلام، والنظر في دلالاتِ الألفاظ على معانيها في النصوص الشرعية من قرآن وسنة إنما تكون بحسْبِ ما قَرَّرَه أَهلُ هذا الفَنِّ من عُلَمَاءِ الشَّرْعِ، فننظرُ في الأَمْرِ والنَّهْيِ، والعَامِّ والخاصِّ، والمُطلَقِ والمُقيَّدِ، والمجمَلِ والمُبَيَّنِ، والنّاسِخِ والمَنسوخِ، والحقيقةِ والمجازِ، والاشتراكِ والإِضمارِ، والمنطوقِ والمفهومِ، وفي الأدلَّةِ الإجماليَّةِ من كتابٍ وسنَّةٍ وإجماعٍ وقياسٍ، وفي التَّعارُضِ والتَّراجيحِ، وأَحكامِ الاجتهادِ والتَّقليدِ، وفي مُصطلحِ الحديثِ والنَّحوِ والصَّرفِ واللغةِ، وفنونِ البلاغةِ والبيانِ، وغيرِ ذلك ممَّا قرَّرَه أهلُ هذه الفَنونِ، وفصَّلوا القولَ فيه، والتي لا تمتُّ إلى العلومِ الحديثةِ وما أَحرَزَه فيها أَصحَابُها بِصِلَةٍ، والأطباءُ والمهندسون والفيزيائيون في هذا عيالٌ على الفقهاء وعلماء الدين. وإذا كان الكلام في العلوم الحديثة لا يكون إلا لمتخصص فيها، فكذلك علوم الشرع، واللغة، لا يجوز أن يتصدر لها إلا من ألم بشيء من فقه اللغة وأصول الفقه يُمكِّنُه من الخوضِ فيها. بل إنَّ الحقَّ الذي لا ريبَ فيه أنَّ هذه العلومَ الشرعيَّةَ من فقهٍ وحديثٍ وتفسيرٍ وكلامٍ هي أَجَلُّ المَعارفِ وأَعْظَمُها، وأَرْفَعُها دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ، وأنَّ أهلَها وأرْبابَها العُلَماءَ من

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015