تلقى من النبي صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة من القرآن، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإِسلام: "إنك لغلام مُعَلَّم" (33)، وقال: "من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أُم عَبْد" (34)، وفي "صحيح البخاري" (35) أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لقد علم أصحاب رسول الله أني من أعلمهم بكتاب الله، وقال: والله الذي لا إله غيره ما أُنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإِبل لركبتُ إليه، وكان ممن خَدَم النبي صلى الله عليه وسلم فكان صاحبُ نعليه وطهوره ووساده حتى قال أبو موسى الأشعري: قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حيناً ما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم (36)، ومن أجل ملازمته النبي صلى الله عليه وسلم تأثر به وبهديه، حتى قال فيه حذيفة: ما أَعرف أحداً أقرب هدياً وسمتاً ودلّاً بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أُم عَبْد (37).

بعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة؛ ليعلمهم أُمور دينهم، وبعث عماراً أميراً وقال: إنهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فاقتدوا بهما، ثم أمَّرهُ عثمان على الكوفة، ثم عزله، وأَمَرَهُ بالرجوع إلى المدينة، فتوفي فيها سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وسبعين سنة.

3 - عبد الله بن عباس:

هو ابن عم رسول الله ولد قبل الهجرة بثلاث سنين لازم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ابن عمه، وخالته ميمونة تحت النبي صلى الله عليه وسلم، وضمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: اللهم علِّمه الحكمة، وفي رواية: الكتاب (38)، وقال له حين وضع له وضوءه: اللهم فَقِّههُ في الدين (39)، فكان بهذا الدعاء المبارك َحِبْرَ الأمة في نشر التفسير والفقه، حيث وفقه الله تعالى للحرص على العلم والجد في طلبه والصبر على تلقيه وبذله، فنال بذلك مكاناً عالياً حتى كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يدعوه إلى مَجَالِسه ويأخذ بقوله، فقال المهاجرون: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟! فقال لهم: ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول، ثم دعاهم ذات يوم فأدخله معهم ليريهم منه ما رآه، فقال عمر: ما تقولون في قول الله تعالى:) إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (النصر:1).

حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا فتح علينا، وسكت بعضهم، فقال عمر لابن عباس: أكذلك تقول؟ قال: لا، قال: فما تقول؟ قال: هو أجل رسول الله، أعلمه الله له إذا جاء نصر الله، والفتح فتح مكة، فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك، واستغفره إنه كان تواباً، قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لَنِعْمَ تُرجُمان القرآن ابن عباس، لو أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد، أي ما كان نظيراً له، هذا مع أن ابن عباس عاش بعده ستًّا وثلاثين سنة، فما ظنك بما اكتسب بعده من العلم

وقال ابن عمر لسائل سأله عن آية: انطلق إلى ابن عباس فاسأله فإنه أعلم من بقي بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عطاء: ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس فقهاً وأعظم خشية، إنَّ أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشِّعر عنده، يصدرهم كلهم من وادٍ واسع.

وقال أبو وائل: خطبنا ابن عباس وهو على الموسم (أي والٍ على موسم الحج من عثمان رضي الله عنه) فافتتح سورة النور فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول ما رأيت، ولا سمعت كلام رجلٍ مثله، ولو سمعته فارس والروم والترك لأسلمت، ولَّاه عثمان على موسم الحج سنة خمس وثلاثين وولاه علي على البصرة فلمَّا قتل مضى إلى الحجاز، فأقام في مكة، ثم خرج منها إلى الطائف فمات فيها سنة ثمانٍ وستين عن إحدى وسبعين سنة.

المشتهرون بالتفسير من التابعين

اشتهر بالتفسير من التابعين كثيرون فمنهم:

أ -أهل مكة وهم أتباع ابن عباس كمجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح

ب -أهل المدينة وهم أتباع أُبي بن كعب، كزيد بن أسلم وأَبي العالية ومحمد بن كعب القرظي.

جـ -أهل الكوفة وهم أتباع ابن مسعود، كقتادة وعلقمة والشعبي.

فلنترجم لحياة اثنين من هؤلاء: مجاهد وقتادة

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015