ففي مشهد من أَجَلِّ مَشَاهِدِ النبوة، لم يزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يبكي في صلاته من تدبره وتفكره؛ إذْ أَرَاهُ اللهُ من أسرار مَلَكُوتِهِ ما أَرَاهُ؛ حتى بكت الأرض ببكائه عليه الصلاة والسلام! .. فقد سَأَلَ عُبَيْدٌ بْنُ عُمَيْرٍ عائشةَ رضي الله عنها، قَالَ: «أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم! قالَ: فَسَكَتَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ! ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي! " قُلْتُ: وَاللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ .. قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ! قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ! قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الأرْضَ! فَجَاءَ بِلاَلٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاَةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً؟ .. لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا! ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ. رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ! ?» (آل عمران: 190 - 191) (2).

وقد ورد التدبر والتفكر ههنا بمعنى واحد كما أشرنا إليه من قبل، لارتباطهما الجدلي. فقوله صلى الله عليه وسلم: (وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا!) هو بمعنى: لم "يتدبرها" لأن تدبرها مُفْضٍ بالضرورة إلى التفكر في خلق السماوات والأرض؛ ولذلك عبر هنا بالتفكر. وأما وعيده - عليه الصلاة والسلام - للممتنع عن التفكر بالويل؛ فهو دليل قوي على وجوب التفكر والتدبر – إجمالاً - على جميع الناس! سواء منهم العالم والعامي، كُلٌّ على ما يسر الله له .. فتأمل!

وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلث الليل، قام فقال: "يا أيها الناس! .. اذكروا الله! جاءتِ "الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ! " جاء الموت بما فيه! جاء الموت بما فيه! ... ) (3) ولا يخفى ما في الحديث من تضمين لآيتي النازعات: ?يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ? (النازعات: 6 - 7). وما في ذلك من تدبر عجيب لهذه الحقيقة الإيمانية في جوف الليل؛ وذلك لِشَبَهِ الليل بظلمة القبر من جهة، ولأن الليل – من جهة أخرى - هو موتٌ لحركة النهار! وفي ذلك أيضا إشارة إلى أن على المؤمن أن يجعل تفكره في الظواهر الكونية مرتبطا بتدبره للآيات القرآنية؛ بسبب ما ينتج عن ذلك من التشمير والجد والعمل! حيث تقع الآيات بعد ذلك على النفس الكسولة الغافلة، موقع السوط اللاهب على ظهر الدابة الخاملة! فتقفز مسرعة بصاحبها في الطريق إلى الله!

وكذلك كان تدبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فعن التابعي العابد الزاهد ابن أبي مليكة رحمه الله، قال: «صَحِبْتُ ابنَ عباس - رضي الله عنهما - من مكة إلى المدينة، فكان إذا نزل قام شَطْرَ الليل! فَسُئِلَ: كيف كانت قِرَاءَتُهُ؟ قال: قرأ: ?وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ .. ? (ق: 19) فجَعلَ يُرَتِّلُ ويُكْثِرُ في ذلك النَّشِيجَ!» (4) والنَّشِيجُ: شدة البكاء، إذا هاج على صاحبه؛ فبكى بصوت مخنوق في صدره، فصار له أَزِيزٌ كأزيزِ القِدْرِ أو الْمِرْجَلِ!

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015