ولو كان بلبوصنا رقم 2 يتمتع بشىء من العقل لعرف أن تخلف الشعوب العربية والإسلامية، بما فيها الشعب المصرى، إنما سببه إهمالهم لمبادئ دينهم رغم تمسكهم بالشكليات وغرامهم بها غراما قاتلا مما لا ينفع شَرْوَى نَقِيرٍ فى مضمار الحضارة والتقدم ما داموا قد تركوا العلم والعمل والإتقان وأَضْحَوْا نافدى الصبر لا طاقة لهم على أى عمل كريم يحتاج إلى تعب وطول نفس، وانحطت أذواقهم فلا يضيقون بقبح أو تشويه، ولعرف كذلك أن ما يشاهده فى أمريكا، التى كثرت أسفاره إليها منذ وقت بعيد، من نظافة ونظام وجمال وإقبال على العمل والإبداع واقتحام لمصاعب الحياة وطموحٍ إلى المعالى والسيادة وشَرَهٍ إلى شهوات الدنيا: الطيب منها والخبيث على السواء، إنما يرجع إلى ترك الأمريكان النصرانية ومبادئها، تلك المبادئ التى توجب على من يتبعها أن يزهد فى الدنيا والمال والنساء والطعام والشراب والسيادة، وأن ينزوى بعيدا عن تيارات الحياة. ذلك أن مملكة المسيح، الذى يقول البلبوص رقم 2 إنه يؤمن به ربًّا، ليست من هذا العالم، وأن الغَنِىّ لا يمكنه، طبقا لما فى الأناجيل، أن يدخل ملكوت السماوات إلا إن استطاع الجمل أن يمر من سَمّ الخِيَاط، أى من ثَقْب الإبرة، وهذا هو المستحيل بعينه، وأنه أحرى بالشخص أن يفقأ عينيه بدلا من أن ينظر إلى امرأة ... إلى آخر ما نعرف جميعا عن النصرانية.

والطريف أن كل ما يباهينا به البلبوص رقم 2 مما يراه فى أمريكا موجود فى ديننا: فالنظافة عندنا من الإيمان، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، والله جميل يحب الجمال، والساعى على رزقه أفضل ألف مرة ممن يظل يعبد الله طول اليوم منتظرا أن يقوم بحاجته غيره، والإيمان دون عمل لا يصح ولا يُقْبَل، وإن الله يحب إذاعمل أحدنا عملا أن يتقنه، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه، ولا يجوز إكراه المرأة، ثيبا كانت أو بكرا، على الاقتران بمن لا تحب تحت أى ظرف من الظروف، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة من المهد إلى اللحد، وفضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب، ولا يمكن أن يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وإنما أهلك الأمم من قبلنا أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ... إلى آخره إن كان لذلك من آخر.

وإنى لأتحداه هو أوغيره أن يأتى من الأناجيل بأى شىء يشبه هذه الدرر الحضارية النفيسة. فالحق أنه ليس فى الأناجيل إلا موعظة الجبل التى تنادى أنْ أحبوا اعداءكم، باركوا لاعنيكم، إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، مما لا يطبقه ولا يمكن أن يطبقه أى نصرانى أو غير نصرانى لتعارضه التام مع الطبيعة البشرية ومقتضيات الحضارة. أما النظافة والعمل مثلا فالأناجيل تصور السيد المسيح عليه السلام كارها لهما لا يطيقهما. لقد رأى عليه السلام اليهود يهتمون بغسل أيديهم قبل الطعام فعاب عليهم ذلك وعده نفاقا. كما أنه طلب من حوارييه أن يتركوا عملهم ويتبعوه حيث يمضى. أما من أين يأكلون فالحقول مفتوحة لهم يغيرون عليها متى جاعوا كالجراد المجتاح، أو ينتظرون أكلة فى هذا البيت أو ذاك. وهذا ما تقوله الأناجيل لا أنا. أما العلم فانْسَ هذا الموضوع واطرحه من ذهنك تَفُزْ وتَسْلَمْ. وبالنسبة إلى موضوع الأمراض والعلاج والتداوى فكل ما قدمه المسيح هو أنه ساعد بعض المرضى على الشفاء. ونحن لا ننكر أن هذه معجزة، لكن السؤال من الناحية الحضارية لا الاعتقادية هو: ولكن ماذا بعد مغادرة عيسى عليه السلام للدنيا؟ من سيشفى المرضى يا ترى؟ وهذا لو كان عيسى، أثناء وجوده على الأرض، يشفى كل الناس من كل الأمراض، وهو ما لم يحدث. أما النبى الأعظم فقد وضع القاعدة الذهبية، وهى أن لكل داء دواء، وحث الناس أن يبحثوا عن العلاج ويتحرَّوُا الدواء اللازم للتعافى من المرض. وهذا هو دور المصلح الذى يستمر مفعول توجيهه العلمى والأخلاقى والحضارى إلى أبد الآبدين.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015