وعلى أية حال فإن النصارى مأمورون بحكم دينهم أن يدفعوا "الجزية" (هكذا بالنص) لأية حكومة يعيشون فى ظلها وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، حسبما قال لهم المسيح حرفيا (متى/ 22/ 17– 21، و12/ 24– 25، ومرقس/ 12/ 14– 17). كما أن بولس، الذى يخالف فى غير قليل من أحكامه ما قاله نبيُّه، قد كرر هنا نفس ما قاله السيد المسيح فأمرهم بالخضوع لأية حكومة تبسط سلطانها عليهم وألا يحاولوا إثارة الفتن، لأن تسلط هذه الحكومات عليهم إنما هو بقَدَر من الله كما قال لهم، ومن ثم لا ينبغى التمرد على سلطانها، بل عليهم دفع الجزية والجبايات دون أى تذمر: "لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية، فإنه لا سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله* فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم* لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير. أفتبتغى ألا تخاف من السلطان؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا* لأنه خادمُ الله لك للخير. فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر* فلذلك يلزمكم الخضوع له لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا* فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه* أدُّوا لكلٍّ حقه: الجزية لمن يريد الجزية، والجباية لمن يريد الجباية، والمهابة لمن له المهابة، والكرامة لمن له الكرامة" (رسالة القديس بولس إلى أهل رومية/ 13/ 1– 7). وهذا الكلام خاص بخضوع النصارى للحكومات الوثنية، فما بالنا بالحكومات المسلمة المؤمنة الموحِّدة التى لم يسمع أحد أنها فعلت بالنصارى ولا واحدا على الألف مما كانت تلك الحكومات تفعله بهم؟
ولنعد الآن إلى ما كنا بصدده من قسوة النصارى فى معاملتها للأمم الأخرى التى تسلطت عيها. وهنا يثور السؤال التالى: ترى لماذا كان تعامل النصارى بهذه القسوة مع غيرهم رغم الكلام المعسول عن المحبة والتسامح وما إلى ذلك؟ والجواب أوَّلا هو أن هذا الكلام المعسول إنما يخص العلاقات الفردية لا الدولية، فالنصرانية لم يكن لها أية سلطة على عهد السيد المسيح، الذى رأيناه هو وحوارييه، على العكس من ذلك، يحاكَمون على يد أعدائهم وبمقتضى قوانين هؤلاء الأعداء. وحتى على المستوى الفردى قد وجدنا أن مثل هذه المبادئ لا تؤكِّل عيشا. وإلى جانب هذا فالنصرانية ديانة لا تقوم على العقل، بل تطلب من الشخص أن يؤمن دون مناقشة أو تفكير، وعلى ذلك فإنها فى الواقع تفتقر إلى هذا التسامح الذى تدّعيه. ومعروف أنه كلما بالغ الشخص فى الحديث عن مزاياه وأزعج الآخرين بها بداعٍ وبدون داعٍ كان ذلك دليلا على كذبه. ومن ثَمَّ فإنها حين وجدت نفسها ذات سيادة ودولة ورأت أنها لا تملك أية تشريعات تتعلق بالحكم والعلاقات الدولية انكفأت إلى العهد العتيق من الكتاب المقدس تستلهمه المشورة فلم تجد إلا الحروب والتشريعات اليهودية التى تتسم بالقسوة الوحشية المفرطة فى معاملة الأعداء فى الحرب وبعد الحرب على السواء دون التقيد بأية التزامات أخلاقية أو إنسانية.
ولسوف أقتصر هنا على نص واحد من النصوص التى وردت فى العهد العتيق خاصة بالحرب. جاء فى سفر "تثنية الاشتراع": "وإذا تقدَّمْتَ إلى مدينة لتقاتلها فادْعُها أولا إلى السلم* فإذا أجابتك إلى السلم وفتحت لك فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية ويتعبدون لك* وإن لم تسالمك بل حاربتك فحاصَرْتَها* وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذَكَرٍ بحدّ السيف* وأما النساء والأطفال وذوات الأربع وجميع ما فى المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك، وكُلْ غنيمةَ أعدائك التى أعطاكها الرب إلهك* هكذا تصنع بجميع المدن البعيدة منك جدا التى ليست من مدن أولئك الأمم هنا* وأما مدن أولئك الأمم التى يعطيها لك الرب إلهك ميراثًا فلا تستَبْقِ منها نسمة* بل أَبْسِلْهم إبسالا ... " (20/ 10– 17). هذا مثال من التشريعات التى وجدها النصارى تحت أيديهم فطبقوها بمنتهى الدقة والإخلاص متى واتتهم الظروف كما حدث فى أمريكا وأستراليا مثلا، وكما حدث فى الأندلس عندما سقطت فى أيديهم فنكَّلوا بالمسلمين تنكيلا رهيبا، وكما حدث كذلك فى فلسطين، التى امتلخوها من العرب والمسلمين وأعطَوْها لليهود.
¥