ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة؛ ثم يقرر لهم- بعد ندائهم ذلك النداء- أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله:

?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) ?، وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم ... إنها التقوى ... فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثارًا لرضاه ... والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفًا وضيئًا يتجهون إليه عن طريق الصيام .. ?لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?) انتهى كلامه- رحمه الله- في ظلال القرآن الشهيد سيد قطب (جـ1 صـ167 - 168).

والصوم بهذا المفهوم كما قسمه علماؤنا على ثلاث مراتب:

الأولى: صوم العموم، وهو لا يعني إلا بمفهوم الصيام الظاهر الذي يمثله كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.

والثانية: صوم الخصوص، وهو الهدف الذي نريد أن نخرج به هذا العام من صيامنا، ونسعى جاهدين أن نحققه في حياتنا ومعايشتنا مع شهر رمضان، وهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل، بل وسائر الجوارح عن الآثام.

والثالثة: صوم خصوص الخصوص، وهو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، وهي مرتبة الأنبياء والصديقين والمقربين.

أما ما يعنينا الآن في مدارستنا هذه فهو صوم الخصوص، وهو صوم الصالحين الذي نريد أن نجعل رمضان من خلاله هذا العام شهرًا للتغيير؛ ولنتفق على جملة أمور ليست حصرًا، ولكن بداية للتغيير المنشود ومرتبة صوم الخصوص، كما قلنا: كف للجوارح وكبح للشهوات ومجاهدة للنفس نجمل بعض ملامحها في:

1 - غض البصر عن النظر المحرم، وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، آملين أن نخرج منه بمجتمع نظيف تسوده العفة والطهارة والرقي الأخلاقي، فغض البصر هو حجر الأساس في بناء الكيان الأخلاقي المنشود، نحفظ النظر عن كل ما يشغل القلب عن ذكر الله، ويلهي النفس عن طاعته، وهذا صوم البصر متمثلين في ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن حذيفة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه جل وعز إيمانًا يجد حلاوته في قلبه" (أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وروى جابر عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خمس يفطرن الصائم الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة" (الجامع الكبير للسيوطي).

2 - حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، بل وإلزامه بفضيلة السكوت، وشغله بذكر الله وتلاوة القرآن، وهذا صوم اللسان، وقد قال سفيان: الغيبة تفسد الصوم، رواه بشر بن الحارث عنه، وروى ليث عن مجاهد: خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الصوم جنة، فإذا كان أحدكم صائمًا، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم، إني صائم" (رواه البخاري ومسلم)، وجاء في الخبر (أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهدهما الجوع والعطش من آخر النهار؛ حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذناه في الإفطار، فأرسل إليهما قدحًا، وقال صلى الله عليه وسلم: "قل لهما قيئا فيه ما أكلتما"، فقاءت إحداهما نصفه دمًا عبيطًا ولحمًا غريضًا، وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه، فعجب الناس من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "هاتان صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله تعالى عليهما، قعدت إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يغتابان الناس فهذا ما أكلتا من لحومهم".

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015