وهذه المعاني قد صنفت فيها الكتب الكثيرة، وتكلف الناس من قبله في استنباط أمثال هذه الوجوه الغامضة والمعاني الخفية من القرآن العزيز، وإنه لم أتى بهذه اللفظة دون تلك؟ ولم قدم هذا وأخر هذا؟ وقد قيل في هذا الفن أقوال طويلة عريضة أكثرها بارد غث، ومنها ما يشهد العقل وقرائن الأحوال أنه مراد.
وقد ورد إلينا في مدينة السلام في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة رجل من وراء النهر كان يتعاطى هذا، ويحاول إظهار وجوه نظرية في هذه الأمور في جميع آيات الكتاب العزيز، نحو أن يقال في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2]:
لم قال: {ما} ولم يقل (لا)؟ ولم قال: {يأتيهم}، ولم يقل: (يجيئهم)؟
ولم قال: {من ذكر} ولم يقل (من كتاب)؟ ولم قال: {من ربهم} ولم يقل:
(من إلههم)؟ ولأي حال قال في موضع آخر {من الرحمن}؟ [الشعراء: 5]
وما وجه المناسبة بين هذه الآية وسياقها؟ وبين لفظة {ربهم} (1).
وعلى هذا القياس.
وكذلك كان يتكلف تعليل كل ما في القرآن من الحروف التي تسقط في موضع وتثبت في موضع، نحو قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ} [الملك: 19] وقوله:
{أو لم يروا إلى ما خلق الله} (2) [النحل: 48] لم أثبت الواو هناك، وأسقطها ها هنا، ونحو قوله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} [النساء: 115]
وقوله: