(وَفَاكِهَةً وَأَبًّا): " الفاكهة "ما يتفكه به الإنسان من أنواع الثمار, و" الأب " قيل: إنه النبات عموماً، وقيل إنه ما يختص بطعام الحيوان. وكأن هذه اللفظة " أب " مأخوذة من (آب) , فالنبات الذي يحصد، ثم يخرج يقال له " أب " من الإياب، وهو العَود. فيشمل الأعلاف، وما شابهها. فكأنه أراد التقسيم: " الفاكهة " للإنسان , و " الأب " للحيوان. وأما ما يروى عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال لما سئل عن " الأب ": (أي سماء تظلنيوأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم) , فهو من حيث السند منقطع, ومن حيث المعنى صحيح؛ فإن الإنسان لا يحل له أن يقول في كتاب الله بمجرد الرأي, بل لابد أن يصدر في ذلك عن أثارة من علم؛ لأن القول على الله عظيم , وقد كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يسألون عن الحديث فيحدثون، فإذا سئلوا عن تفسير القرآن أمسكوا، تعظيماً للمقام؛ لأنهم يرون أن هذا قول على الله عز وجل، وتوقيع عن رب العالمين، فكانوا يتحرجون غاية الحرج، أن يقولوا في كتاب الله مالا يعلمون. فالواجب على الإنسان ألا يخوض فيما لا يعلم, ويروى عن عمر، رضي الله عنه، أنه ساءل نفسه عن " الأب " ثم قال، إن هذا لهو التكلف يا عمر! وقد يكون هذا مشكلاً, فقد يفهم بعض الناس من هذا الأثر، وهو صحيح، أن الإنسان لا يسأل عما خفي عليه, لكن لا يظهر أن هذا هو مراد عمر، رضي الله عنه, وإنما كره أن يقول فيه بلا بينة، فعد ذلك تكلفاً، أن يستنبط شيئاً بلا جزم ولا يقين. وربما كان هذا اللفظ " الأب " ليس من لغة قريش، فخفي على عمر، رضي الله عنه؛ فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فبعض ألفاظه ومفرداته، قد لا تكون من لغة قريش, وإنما من لغة بعض أحياء العرب، فخفي على عمر، فنهى نفسه أن يتعجل قولاً بلا جزم ولا بينة، فقال: إن هذا لهو التكلف. ولكن هذا لا يعني أن لا يسأل الإنسان عن معاني ما أنزل الله تعالى على نبيه, لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك شاذة، ولا فاذة، إلا بينها، كما قال تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم) , وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ) , وقال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ) , وقال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) , وقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) , فلابد من تعقل القرآن جميعه، ومعرفة مفرداته، وتراكيبه, ولكن هذا لا يكون بمجرد الرأي المحض، لابد من تفسيره بالمأثور، وقد بين ابن عباس، رضي الله عنهما أن تفسير القرآن على أربعة أضرب:

الوجه الأول: تعرفه العرب من لغتها: مثل معرفة " غَاسِقٍ " , و " وَقَبَ " , و " الرَّقِيمِ " , و " الأب " ونحو ذلك، فهذا يطلب من علوم العربية، وقد كانوا ينشدون الأشعار، ويحفظون الشواهد، التي يفسر بها القرآن, وقد جرى بين ابن عباس، رضي الله عنهما، ونافع بن الأزرق سجال في هذا, وكان ابن عباس يستدل على معنى كل لفظة، ببيت من شعر العرب.

الوجه الثاني: ما لا يعذر أحد بجهالته: وهو المعلوم من الدين بالضرورة. فإذا قال الله تعالى: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) , فليس لقائل أن يقول: المقصود بالصلاة هنا الدعاء. لأن الشرع أتى بمعنى اصطلاحي للصلاة، وأنها عبادة ذات أقوال، وأفعال، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. هكذا.

الوجه الثالث: ما يعلمه العلماء: وهو الذي يحتاج إلى طلب، ورواية، ودراية؛ كمعرفة الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والخاص والعام.

الوجه الرابع: مالا يعلمه إلا الله، فمن أدعى علمه فهو كاذب: والمقصود به الكيفيات، وحقائق المغيبات, فهذا لا يمكن أن يعلمه إلا الله. فإذا أخبر سبحانه وتعالى أنه (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فإننا نثبت الاستواء، ونثبت معناه؛ أنه العلو, لكننا لا ندرك كيفيته، فكيفيته لا يعلمها إلا الله. الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وإذا أخبر الله تعالى، عن ما يقع في اليوم الآخر؛ من النفخ في الصور، والبعث، والنشور، والحشر، والصراط، والميزان, فإننا نعلم هذه المعاني من حيث اللغة , لكن لا ندرك الكيفيات, فهذا مما أستأثر به الله تعالى بعلمه، أي بعلم كيفيته.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015