واستمر خط الابتعاد عن كتاب الله يمضي قدما، بطيئا وبشكل يخفى عن العامة في أول الأمر، ثم بخطى متسارعة وبصورة سافرة بعد ذلك. فبعد أن كانت الأمة مجمعة الكلمة على العمل بكتاب ربها، وتستمد تشريعاتها من أحكامه، بدأت في التخلي عنه شيئا فشيئا، فعاقبها الله بأن سلبه من يدها، إلى أن أصبحت لا تعمل به. وبالطبع كان هناك دورا رئيسيا لأعداء الأمة في الوصول إلى هذه الحالة التي أصبحنا عليها.
فقد جاء الاحتلال الفرنسي فتعامل بقسوة مع الأمة، وحاول إجبار الأمة على التخلي عن تعاليم الدين بالحديد والنار. وبسبب إتباع هذا المنهج السافر، فلم تزدد الأمة إلا تمسكا بدينها وبتعاليم كتاب ربها. ورغم أنه لم يكن قد بقي من الإسلام إلا طلاسم وذكريات إلا أن الأمة وقفت صفا واحدا في وجه من حاولوا تشويه صورة دستورها. ولذلك تعامل الإنجليز الذين أعقبوا الفرنسيين بصورة أكثر دهاء ومكرا ولكن بنفس المنطق والحزم في زحزحة الأمة عن دينها.
فيقف جلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في مجلس العموم البريطاني يحث قومه على زعزعة الأمة عن دينها فيقول: " مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة علي الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان ". ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: " إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرأون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم ".
ويسير المنصرون الذين رافقوا هذه الحملات على نفس الخط. فيقول المنصر وليم جيفورد بالكراف، في كتاب جذور البلاء: " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداُ عن محمد (صلى الله عليه وسلم) وكتابه ". ويقول المنصر تاكلي، في كتاب التبشير والاستعمار: " يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً. يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداُ، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً ". ويقول المنصر ذاته " تاكلي "، في كتاب الغارة على العالم الإسلامي: " يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية ".
واستدعى ذلك الأمر العمل على عدة محاور وفي نفس الوقت. فتم إلغاء الكتاتيب والحد من تأثيرها وإضعاف مكانتها في النفوس. وبالطبع لا يختلف أحد في أن الكتاتيب كان قد أصابها شيء من القصور، ولكن كان يجب العمل على علاج تلك الأخطاء الناجمة والتي تراكمت عبر الزمن وليس إلغائها تماما. وتزامن هذا مع الإبقاء على الأزهر - كمؤسسة دينية - قائما مع إضعاف مكانته وزعزعة ثقة الناس فيه بإنشاء المدارس الأجنبية اللادينية إلى جانبه، والمسارعة إلى تعيين خريجي هذه المدارس في مختلف الوظائف المرموقة وبأجور مرتفعة للغاية، مع عدم توفير فرص عمل لخريجي الأزهر (وبالأخص حملة القرآن منهم)، وإن وجدت فهي ضعيفة الأجر.
وهكذا بدأت النظرة إلى القرآن واللغة العربية تتغير في نفوس الناس! ومع رثاثة حال حملة القرآن وخريجي المدارس الدينية، ووجاهة خريجي المدارس اللادينية، بدأت هذه النظرة الجديدة تتغلغل في النفوس، ليتجه المجتمع بأكمله نحو هجران القرآن!! ولم يعد فخرا للأسر أن ترتبط بمن يحمل مؤهل ديني، لضعف منزلته الاجتماعية في المجتمع. مع ما تركه هذا من آثار عميقة في نفوس هؤلاء الأفراد، الذين شعروا أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب اتجاههم للدين، فكان أن مقتوه في داخل نفوسهم، وسعوا بكل الطرق إلى عدم تكرار تجاربهم. وصار طموح أي فرد في المجتمع أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا. ولم تعد تجد من يحلم أو تحلم له أسرته بأن يكون " عالم دين " أو " دارس فقه " أو حامل للقرآن ". وتواكب مع هذا صناعة نجوم في المجتمع يشار إليها بالبنان تبتعد تماما عن الإسلام وقيمه. وغُيبت عن عمد نماذج رجال الدين أو رموزنا الدينية من صفحات! الجرائد أو المجلات أو وسائل الإعلام الأخرى حتى يستقر هذا الاتجاه في النفوس.
¥