ولا شك أن المعالجات الجيدة في الإعجاز هي التي تستوعب عصرها وتتجاوز ما تسببه مؤثرات هذا العصر من مشكلات؛ فتصبح حينئذ هذه المعالجات موضوعية صالحة لما يأت بعدها من عصور

ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[12 May 2009, 09:40 م]ـ

أثر الواقع الفكري على دراسة الإعجاز العلمي:

إن الإعجاز العلمي ليس بدعاً من المناهج التي تناولت أحد الوجوه في دراسة الإعجاز؛ إذ كانت له مؤثراته الفكرية كما كانت لغيره من المناهج؛ فالإعجاز العلمي لم ينشأ من فراغ فكرى ولا في فضاء ثقافي منعزل عن الحياة المعاصرة ومعطياتها؛ بل نشأ هذا الإعجاز في واقع فكري وثقافي واجتماعي وحضاري معين، ولهذا فإن شأنه كشأن سائر قضايا الواقع المعاصر ولابد أن يوثر فيه هذا الواقع الفكري بشكل من الأشكال ولا مناص له من ذلك إطلاقاً، وسواء كانت تيارات الواقع الفكري ومذاهبه واتجاهاته ذات توجه موافق أو مخالف أو مناقض أو معضد لتوجه الإعجاز العلمي فلابد من إلقاء ظلالها على هذه القضية سواء كان ذلك بالسلب أو الإيجاب أو التأثير أو رد الفعل أو التأييد أو الرفض أو نحوها، ومعلوم أن طبيعة العصر قد كان لها أثر في معالجات الإعجاز العلمي بشكل من الأشكال، كما أن التيارات الفكرية في هذا الواقع قد كان لها صداها الايجابي أو المعاكس في هذه القضية.

ورغم أن للإعجاز العلمي مؤثرات فكرية كثيرة إلا أن أبرز المؤثرات تقريباً ـ هيمنة العلمانية الغربية ومحاولات إسباغ معطياتها على كافة مجالات الحياة، وهذه العلمانية كما تبلورت في الفكر الغربي تفصل بين العلم والدين؛ وتعدهما أمرين لا يمكن أن يلتقيا أبداً، وقد كان سبب ذلك أن الكنيسة الغربية ظلّت مهيمنة على كل مجالات الحياة في أوربا، وكان أسلوبها في التفكير يتجه اتجاهاً معاكساً للحقيقة والواقع، وقد سفكت الكنيسة دماء العلماء الطبيعيين؛ لأن بعض الحقائق التي اكتشفوها تعارض الكتاب المقدس , وقد عانى العالم غليليو ـ كما هو معروف ـ من ذلك وحوكم، وأول القضايا التي أثيرت ضده هي قوله "إن الكواكب السيارة أكثر من سبعة " مما أثار رجال الكنيسة ووصفوه بالخروج عن الدين، واستشهدوا ضده بعدد أيام الأسبوع وفتحات وجه الإنسان؛ وقد وصفوه أيضاً بالهرطقة والزندقة عندما أعلن عام 1616م تأييده لفكرة كوبرنيكوس القائلة بأن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض؛ ومن ثم فالأرض تدور حول الشمس وليس العكس، ولما كانت الكنيسة تؤمن بآراء بطليموس التي ترى أن الأرض ثابتة وكل شيء يدور حولها، فإن غليليو بآرائه ومكتشفاته هذه يخطيء الكنيسة، والكنيسة ـ عندهم ـ لا يمكن أن تخطيْ؛ ولذلك ففد استدعي غليليو أمام المجلس البابوي وأجبر إجباراً على أن يعلن على الملأ أن الأرض لا تدور حول الشمس وأنه قد أقلع عن هذه فكرته الخاطئة التي أثبتها علمياً وأقر بأنه لن يتمسك بها أو يعلّمها أو يدافع عنها بوجه من الوجوه؛ وبعد ذلك كله حكمت المحكمة بإدانته بارتكابه إثماً في حق الكنيسة وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة؛ ثم خفف الحكم إلى إقامة جبرية في منزله حتى مات؛ مع أن العلم قد أيد آراء كوبرنيكوس وغليليو وأثبت صحتها منذ زمن بعيد، إلا أن الحكم بالزندقة على غليليو قد بقي محفوظاً في أضابير وسجلات الفاتيكان؛ حتى رأى البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1992م رفع هذا الحكم وإسقاطه، أي أن الحكم ببراءة غليليو من التهم الموجهة إليه قد صدر بعد وفاته بنحو ثلاثمائة وخمسين عاماً

وقد أدرك المفكرون قبيل النهضة الأوربية أنه لا بد من مناهضة أفكار الكنيسة، وقد تدخلت عوامل عديدة لتوجيه الصراع لصالح هؤلاء المفكرين كان من ضمنها دخول العلوم الإسلامية، وكان من ضمن تلك العلوم الإسلامية العلوم التجريبية القائمة على منهج الاستقراء والملاحظة.وقد اجتاح منهج البحث التجريبي في أوربا أساليب التفكير اللاهوتي التي كانت غارقة في التفكير النظري والتجريد الميتافزيقي؛ يقول مايرهرف ماكس: “كانت العلوم الإسلامية وهي في أوج عظمتها تضيء كما يضيء القمر فتبدد غياهب الظلام الذي كان يلف أوروبا في القرون الوسطى .... ولما كان لتلك العلوم العربية سهمها الأوفى في توجيه هذا العهد الجديد وحث خطواته، فعلينا أن نقر بأن التراث العربي الإسلامي ما زال يعيش في علومنا حتى الآن"ومما سبق يتضح أنّ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015