ولما كان الأمر كذلك فقد ثبت أن الوحي وحدة متكاملة بحيث يفسرّ بعضه بعضاً ويخصّص مخصصه عامه ويقيدّ مقيده مطلقه وهو على اختلاف ما يتصرف فيه يجعل المختلف كالمؤتلف والمتباين كالمتقارب الأمر الذي تجد خلافه في كلام البشر. ولهذا التكامل أوجهاً متعددة منها.

أ- التكامل في التخصيص:

التخصيص يكون بأن يأتي في القرآن موضع عام المعنى يخصصه معني آخر في موضع آخر من القرآن أو السنة؛ والقرآن يخصص نفسه والسنة؛ و كذلك السنة تخصص القرآن ونفسها أيضاً؛ وما ذلك إلا لأنّ الوحي كله وحدة متكاملة لا تتجزأ؛ يقول الإمام الشوكاني " احتج العلماء بأن القرآن كالكلمة الواحدة في أنها لا تتناقض " وكما أن القرآن في نفسه كالكلمة الواحدة فهو أيضاً مع السنة كذلك؛ يقول ابن حزم " إن القرآن والحديث الصحيح متفقان لا تعارض بينهما ولا اختلاف "

وللإمام الآمدي فصلان في كتابه " الإحكام في أصول الأحكام" أحدهما:عن تخصيص عموم السنة بخصوص القرآن، والآخر: عن تخصيص عموم القرآن بخصوص السنة.

ومثال تخصيص القرآن بالسنة ما يأتي: قال تعالى:

} وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ ?

حيث تحلل الآية كل أصواف الأنعام وأو بارها وأشعارها، ولكن السنة خصصت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:

" ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت"

ومن الأمثلة أيضاً قوله تعالى:

} يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ?

خصصته السنة باستثناء الابن الكافر أو القاتل.

ومن الأمثلة أيضاً قوله تعالى بعد أن ذكر عدداً من محرمات النساء:} وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ? خصصته السنة بما رواهـ أبو هريرة:"لا تنكح المرأة على عمتها"

د- التكامل في المعنى:

لما كان الوحي وحدة متكاملة فقد لزم جمع الآيات والأحاديث ذات الموضوع الواحد عند محاولة دراسة ذلك الموضوع؛ حتى يمكن الخروج بمعنى متكامل لهذا الموضوع، ومن المعلوم أن التجزئة والتفريق والاعتماد على النصوص المفردة المنعزلة عن بعضها من أخطر الأمور في الدراسة.

وهذه الوحدة لا تقتصر على آيات القرآن وحده بل تتعداه إلى السنة أيضاً، إذ أنّ كلا الأمرين وحي كما سبق، ولهذا وجب الجمع بين القرآن والحديث؛ إذ أنهما يتكاملان ولا يتعارضان؛ يقول ابن حزم " إن القرآن والحديث الصحيح متفقان لا تعارض بينهما ولا اختلاف ويوفق الله لفهم ذلك من شاء من عباده ويحرمه من شاء كما يؤتي الفهم والذكاء من شاء ويؤتي البلادة وبعد الفهم من شاء .... وصح بما ذكرنا بطلان قول من يضرب القرآن بعضه ببعض أو يضرب الحديث بعضه ببعض"

سادساً: مصدرية الوحي للعلوم الطبيعية والاجتماعية

إنّ من الأمور الواضحة عندنا أن الوحي مصدر للمعرفة الحقة، وهذا أمر لا يجادل فيه مسلم قط؛ إلا أن الواقع العلمي والتعليمي الآن عندنا لا يعتمد الوحي عملياً مصدراً للمعرفة أصلاً، وهذه مفارقه كبرى.

ورغم ما سبق من خصائص الوحي المعروفة التي تجعله يمثل مركزاً متميزاً من مصادر المعرفة - إلا أنّ هنالك أموراً قد ساهمت مساهمة كبيرة في إقصاء هذا الوحي عن مضمار المعرفة، وهذه الأمور بعضها يتعلق بعوامل داخلية نحو نظم التعليم عندنا من جهة وكوننا متلقين للعلم عن الغرب دون فحص ولا تمحيص من جهة أخرى. أما العوامل الخارجية المتعلقة بالفكر الغربي نفسه فمنها سيادة العلمانية من جهة وتصور الفكر الغربي الضيق للعلم والوجود من جهة أخرى؛ وتفصيل ذلك كالآتي:

1 - العوامل الداخلية لإقصاء الوحي كمصدر معرفي:

أ-نظم التعليم:

إنّ النظام التعليمي الحالي في العالم الإسلامي قد أثر تأثيراً سالباً في تعامل المسلمين مع الوحي باعتباره مصدراً من مصادر العلوم والمعرفة، ويبدو ذلك في ازدواجية هذا التعليم الذي انقسم إلى: ما هو ديني وما هو دنيوي، وقد سبق أن من خصائص الوحي في الإسلام مراعاة مصالح الناس في دنياهم وأخراهم وارتباطه الشديد بواقعهم واهتمامه بإصلاح هذا الواقع؛ وهذا أمر يدحض هذه الازدواجية منذ البداية، ورغم ذلك إلا أن النظام التعليمي قد قسم التعليم إلى اتجاهين ولم يحسن التعامل مع أي منهما وهذان الاتجاهان هما:

1 - التعليم الديني:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015