ويقول ابن قيم الجوزية " نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً، فليس بشيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلها وتنله في يده كنوز السعادة والعلوم النافعة وتثبت قواعد الإيمان في قلبه وتشيد بنيانه وتوطد أركانه وتريه صورة الدنيا والآخرة "

وخلاصة ما سبق من كلام عن موافقة الوحي للعقل الآتي:

أ- إن الوحي والعقل الصريح لا يمكن أن يتعارضا، فحقائق الوحي موافقة للعقل وإن خفيت عليه في بعض الأحيان.

ب- لا يمكن الاكتفاء بالعقل دون الوحي ولا بالوحي دون العقل؛ إذ أن الوحي مصدر للمعرفة والعقل وسيلة هذه المعرفة، فإذا عطلت ملكات العقل فإنه لا يمكن الاستفادة من الوحي، وكذلك الأمر إذا عزل الوحي عن العقل واعتد بهذا العقل دونه.

10 - التنجيم

ذكر العلماء أن القرآن قد نزل كله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة بالسماء الدنيا، ثم أخذ ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم أجزاء متفرقة خلال ثلاث وعشرين سنة

وقد كان هذا التنجيم والتفرق لعدة أسباب هي:

أ-تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم

قال الله تعالى:} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً? ولا شك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مرّ بمحن كثيرة خلال دعوته؛ فأخذ القرآن ينزل عليه تسلية له وتذكيراً له بأحوال الرسل السابقين وإعانة له في مواصلة دعوته والصبر على الكفار الجاحدين.

ب-إنزاله على الواقع:

كان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم حلاً لكثير من المشكلات في الواقع سواء كانت هذه المشكلات أسئلة من الكفار والمشركين أو استفسارات من المؤمنين، وكان للنزول أسبابه التي تؤكد ارتباط القرآن الوثيق بواقع الناس وشئونهم ومشكلاتهم التي ساهم التنجيم في حلها حلاً مباشراً.

ج- تيسير الحفظ:

إن من حكم التنجيم الحفظ والخلود وتيسير الفهم على المؤمنين؛ فلو أن القرآن أنزل جملة واحدة لكان فهمه وتدبره على الجملة، ولكن نزوله منجماً قد ساهم مساهمة فاعلة في جودة فهمه وإنزاله إلى الواقع.

ومن المعلوم أنّ القرآن قد نزل على محمدصلى الله عليه وسلم فتلقاه تلقياً وحفظه في قلبه ولم ينزل مكتوباً كالتوراة؛ ولهذا كان اعتماد أهل الكتاب على ما هو مكتوب، أما المسلمون فقد حفظوا كتابهم حفظاً ولم يفرطوا في حرف منه؛ يقول ابن تيمية "أنزل القرآن مفرقاً ليحفظ فلا يحتاج إلى كتاب"

د- التدرج في الأحكام:

إن من الحكم التي تحققت بالتنجيم التدرج في الأحكام، ومن المعلوم أن بعض العادات الاجتماعية الذميمة قد تكون متأصلة في المجتمع؛ بحيث لا يمكن اقتلاعها مرة واحدة، ولهذا جاء الوحي متلطفاً بهم متدرجاً بهم في مصاعد الرقي شيئاً فشيئاً ومن الأمثلة على ذلك "تحريم الخمر " الذي مرّ بعدة مراحل يتلو بعضها بعضاً، وقد كان شرب الخمر من الأمور التي لم يكن يتصور العقل اقتلاعها مرة واحدة وهي من مفاخر العرب وعاداتهم؛ إلا أنّ الوحي قد اقتلع هذه العادة المتأصلة من جذورها؛ إذ أخذ يأتي بالآيات التي تزيد من حصار هذه الظاهرة حتى قضى عليها في نهاية المطاف قضاء تاماً، وذلك على مراحل متتالية هي:

المرحلة الأولى: مرحلة التلميح:

يمثل هذه المرحلة قوله تعالى:} وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ? وقد أنزلت هذه الآية بمكة وهي كما هو واضح تلمح إلى ان السكر ليس رزقاً حسناًً.وقد أخذ المسلمون يشربون الخمر رغم التلميح الذي يقرر أن السكر ليس رزقاً حسناً؛ فأحس معاذ وعمر ونفر من الصحابة بذلك التلميح؛ فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال.

المرحلة الثانية: مرحلة الترجيح:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015