ويمضى علي عزت في وصف الأجواء التي كانت سائدة في المؤتمر فيقول: " كان الحاضرون يستمعون باهتمام إلى كلمات المحاضرين والعلماء، ولكننا كنا نشعر بوجود مئات الحاضرين في القاعة من خلال الهمسات والحركات فهذا يهمس إلى جاره وذاك يحرّك كرسيه وآخر يتصفح أوراقه، وهكذا ... ولكن بعد لحظات من شروع القارئ في تلاوة القرآن تتوقف كل الحركات والأصوات فجأة ويسيطر الهدوء الشامل .. حتى أثناء توقف القارئ للتنفس لم يكن يُسمع في القاعة صوت .. بل خُيّل إليّ أن جميع الحاضرين قد توقفوا عن التنفس أيضاً .. إنه الهدوء الذي يستطيع الناس فيه أن يستمعوا إلى خفقان قلوبهم بشكل منتظم .. كانت كلمات القرآن الكريم تنساب من فم هذا القارئ كنهر متدفّق .. يجرى هادئاً مترقرقاً حيناً ثم لا يلبث أن يتحول إلى شلالات هادرة لتأخذك وتحملك بعيداً .. ولكن قمة الحدث الذي لا يمكن وصفه بالكلمات كانت في اليوم الأخير، عندما اعتزم القارئ الشيخ أن يتحفنا بهدية خاصة قبل الفراق، لذلك اختار تلاوة سورة الرحمن .. هذه السورة بديعة رائعة متميّزة بجمال أسلوبها وتناسقها .. أظنني إلى الآن لا زلت عاجزاً عن وصف الحالة التي كنت فيها وأنا أنصت إلى التلاوة .. لم أكن قبل ذلك الوقت أفهم معنى آيات هذه السورة فهماً كاملاً سوى الآية المتكررة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} ولكنني بتأثير قوة التعبير الصوتي وجماله شعرت بأني أفهم آياتها تماماً، أنا وجميع المستمعين ...
بعد الانتهاء من التلاوة في كل يوم من أيام المؤتمر كنت أجد نفسي أقترب شيئاً فشيئاً من الآخرين، وكنت أقرأ هذا الإحساس نفسه في وجوه الحاضرين، كأنهم يريدون أن يقولوا: ألا ترون .. ألسنا جميعاً أخوة في الإسلام .. !؟ " كان علي عزت وهو لا يزال شابّاً في العشرينات من عمره يعترض على الاهتمام المبالغ فيه بتلاوة القرآن بصوت رخيم وبدون فهم لمعانيه .. ويعتبر هذا عائقاً عن الاهتمام الواجب بتطبيق القرآن في حياة الناس ... ولذلك يقول: " بعد هذه الواقعة لن أجرؤ على تقليل أهمية الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم بدون فهم .. لأن قلوب جميع المسلمين تفهم القرآن بشكل أو بآخر من خلال التجويد المنضبط والتلاوة الجميلة المعبّرة عن المعاني .. وسيجد كل إنسان في القرآن من المعاني بقدر ما في عقله وقلبه من رحابة وبقدر إيمانه و قوة تعلّقه بالقرآن العظيم ... ".
(4)
ما لم يذكره بيجوفيتش في هذه المقالة فيما يتعلق بسورة الرحمن بالذات أنه كانت له ذكريات معها في طفولته المبكرة .. ففي مذكراته التي نُشرت له قبل وفاته ببضعة أشهر يتحدّث عن حبه لأمه .. ويصفها بأنها رقيقة عطوف .. وعلى جانب عظيم من التّديّن والتُّقى .. فقد كانت حريصة على قيام الليل وقراءة القرآن حتى يحين موعد صلاة الفجر فتوقظه ليذهبا معاً إلى صلاة الجماعة في المسجد القريب من منزلهم .. يقول: " كنت في ذلك الوقت صبيّاً بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمري ولم يكن من السهل عليّ مغادرة فراشي الدافئ في ذلك الوقت المبكر، فكنت أقاوم في بادئ الأمر .. ولكني كنت أشعر بعد العودة من المسجد بانتعاش كبير وسعادة غامرة من هذه الخبرة المثيرة .. خصوصاً في فصل الربيع، حيث تكون الشمس قد أشرقت وغمرت المكان بأشعتها الدافئة، ولمّا تزلْ آيات القرآن حلوة نديّة تترقرق في مسامعي، فقد اعتاد الإمام الشيخ قراءة سورة الرحمن كاملة في الركعة الثانية بصوته العذب، وكان هو نفسه شخصية محبوبة من جميع أهل البلدة .. كنت أعود من المسجد دائماً سعيداً منشرح الصدر .. وقد استقر هذا الانطباع في أعماق نفسي قوياً مشرقاً في وسط ضباب كثيف من الخبرات الأليمة التي أحاطت بحياتي عبر السنين ... ".بقلم: محمد يوسف عدس
ـ[أبو المهند]ــــــــ[09 May 2009, 05:51 ص]ـ
.
خواطر إيمانية قيمة أسأل الله أن يفيض على صاحبها خير الثواب، وعلى كاتبها وناقلها كذا المطلع والمعلق عليها.
وصدق الله العظيم:" {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر21