وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا. .

ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات - ومن حقائق - عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن. . كلا! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان. ولقد قال الله سبحانه: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله. وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا.

فكيف؟ ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال:

يقول القرآن الكريم مثلاً: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون. . الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، وبميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا. . وبآلاف من الخصائص. . هي التي تصلح للحياة وتوائمها. . فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة. . هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} وتعميقه في تصورنا. . فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه. . وهكذا. .

هذا جائز ومطلوب. .

ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علمياً، هذه الأمثلة الأخرى:

يقول القرآن الكريم: {خلق الإنسان من سلالة من طين} ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان. . فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية. لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن!!

لا.

إن هذه النظرية أولاً ليست نهائية. فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائياً. وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر، ما يكاد يبطلها. وهي معرضة غدا للنقض والبطلان. . بينما الحقيقة القرآنية نهائية. وليس من الضروري أن يكون هذا معناها. فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة. وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها وهي أصل النشأة الإنسانية. . وكفى. . ولا زيادة. .

ويقول القرآن الكريم: {والشمس تجري لمستقر لها} فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس وهي أنها تجري. . ويقول العلم: إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلاً في الثانية. ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعاً بسرعة 170 ميلاً في الثانية. . ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية. إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان. . أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية - في أن الشمس تجري - وكفى فلا نعلق هذه بتلك أبداً.

ويقول القرآن الكريم: {أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما} ثم تظهر نظرية تقول: إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها. . فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية. ونقول هذا ما تعنيه الآية القرآنية!

لا. . ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية. وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة. وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء. . كيف؟ ما هي السماء التي فصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية. . ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع: إنه المدلول النهائي المطابق للآية!

وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق. . وفرق بين هذا وذاك."

طور بواسطة نورين ميديا © 2015