وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة، فصنعت حريرة ـ دقيق يطبخ بلبن أو دسم ـ وجئت به، فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئًا منه فلطخت به وجهها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئًا فمسحت به وجهي! وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. [18]

وروي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميمًا قبيحًا، فلما بايعه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء ـ وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب ـ أفلا أنزل لك عن إحداهن فتتزوجها؟! وعائشة جالسة تسمع، فقالت: أهي أحسن أم أنت؟ فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤالها إياه؛ لأنه كان دميمًا. [19] وكان صلى الله عليه وسلم يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصًا في المناسبات السائدة مثل: الأعياد والأعراس.

ولما أنكر الصديق أبو بكر رضي الله عنه غناء الجاريتين يوم العيد في بيته وانتهرهما، قال له: "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد" [20]! وفي بعض الروايات: "إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا " [21].

وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول: "دونكم يا بني أرفدة" [22]!

وأتاح لعائشة أن تنظر إليهم من خلفه، وهم يلعبون ويرقصون، ولم ير في ذلك بأسًا ولا حرجًا.

كما أتاح لها أن تلعب بالبنات (اللُّعب) مع صويحباتها.

واستنكر يومًا أن تزف فتاة إلى زوجها زفافًا صامتًا، لم يصحبه لهو ولا غناء، وقال: "ما كان معها لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو " [23]. وفي بعض الروايات: "هلا بعثتم معها من تغني وتقول: أتيناكم أتيناكم .. فحيونا نحييكم" [24].

وقد ذكر الإمام الغزالي في كتاب (الإحياء) [25] أحاديث غناء الجاريتين، ولعب الحبشة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وتشجيع النبي لهم بقوله: " دونكم يا بني أرفدة ". وقول النبي لعائشة: " تشتهين أن تنظري "؟، ووقوفه معها حتى تمل هي وتسأم، ولعبها بالبنات مع صواحبها، ثم قال: فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين، وهي نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام، وفيها دلالة على أنواع من الرخص:

الأول: اللعب، ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب.

والثاني: فعل ذلك في المسجد.

والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: " دونكم يا بني أرفدة " وهذا أمر باللعب، والتماس له، فكيف يقدر كونه حراما؟

والرابع: منعه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن الإنكار والتعليل والتغيير، وتعليله بأنه يوم عيد، أي وقت سرور، وهذا من أسباب السرور.

والخامس: وقوفه طويلا في مشاهدته ذلك وسماعه، لموافقة عائشة رضي الله عنها، وفيه دليل على أن حسن الخلق في تطييب قلوب النساء والصبيان بمشاهدة اللعب أحسن من خشونة الزهد والتقشف في الامتناع والمنع عنه.

والسادس: قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة ابتداء: " أتشتهين أن تنظري "؟

والسابع: الرخصة في الغناء والضرب بالدف من الجاريتين ... إلى آخر ما قاله الغزالي في كتاب السماع.

الصحابة على هدي رسول الله:

وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون، اقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم واهتداء بهديه. حتى إن رجلاً مثل عمر بن الخطاب -على ما عرف عنه من الصرامة والشدة- يروى عنه أنه مازح جارية له، فقال لها: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام! فلما رآها ابتأست من هذا القول، قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل؟؟

وقد عرف بعضهم بذلك في حياته - صلى الله عليه وسلم-، وأقره عليه، واستمر على ذلك من بعده، وقبله الصحابة، ولم يجدوا فيه ما ينكر، برغم أن بعض الوقائع المروية في ذلك لو حدثت اليوم لأنكرها معظم المتدينين أشد الإنكار، وعدوا فاعلها من الفاسقين أو المنحرفين!

الصحابة الفكاهيون (الكوميديون):

من هؤلاء المعروفين بروح المرح والفكاهة والميل إلى الضحك والمزاح: النعيمان بن عمر الأنصاري، رضي الله عنه، الذي رويت عنه في ذلك نوادر عجيبة وغريبة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015