وهى من الشعر الذى رواه ابن إسحاق له. وكان هذا قبل أن يجف الحبر الذى كتب به رفضه لما رواه له ابن إسحاق. ومن ذلك أيضا اعتذارية كعب بن زهير اللامية: "بانت سعاد"، التى أكسبته بردة النبى عليه الصلاة والسلام، وحائية أمية بن أبى الصلت التى ناح بها على قتلى المشركين فى بدر، ومنها هذان البيتان اللذان أوردهما ابن سلام:

ماذا ببدر فالعقنقل من مرازبة جحاجح؟

هلا بكيت على الكرا م بنى الكرام أولى الممادح

وكذلك قصيدة ابن الزبعرى عقب يوم أُحُد، وكان لا يزال على الكفر، ومطلعها:

يا غراب البين، أَسْمَعْتَ فَقُلْ * إنما تنطق شيئا قد فُعِلْ

فقد روى ابن سلام عددا من أبياتها، وكان ذلك على سبيل الاستشهاد لا الحصر. وهناك قصيدتاه الأخريان اللتان يعتذر فيهما عما أسلفت يداه فى حق النبى قبل إسلامه واللتان يقول فى مطلعيهما:

منع الرقادَ بلابلٌ وهمومُ * والليل معتلج الرواقِ بهيمُ

...

يا رسولَ المليك، إن لسانى * راتقٌ مافَتَقْتُ إذ أنا بُورُ

ومن هذا أيضا روايته لحسان بن ثابت بعض أبيات من قصيدته التى قالها فى غزوة أُحُد، وهى:

فجئنا إلى موجٍ من البحر وَسْطَه * أحابيش منهم حاسرٌ ومقنَّعُ

ثلاثة آلاف ونحن نصية * ثلاث مئينٍ إن كَثُرْنا وأَرْبَعُ

فراحوا سراعا مُوجِفين كأنهم * جهامٌ هراقت ماءه الريحُ مقلعُ

ورحنا وأخرانا تطانا كأننا * أُسُودٌ على لحمٍ ببيشةَ ظُلَّعُ

... إلخ. وهذه كلها أدلة متضافرة على أنه لم يكن يراعى الدقة والتحقيق فى كلامه وأحكامه، ومن ثم كان علينا أن نتوقى الانسياق معه دون مراجعة وتمحيص.

ومما تقدم يتبين لنا كيف كان ابن سلام يبالغ فى أحكامه أو يصدرها دون أى مسوغ أو استنادا إلى شواهد لا ترقى إلى مرتبة التصديق، كما كان يتناقض فى آرائه وفتاواه، أو يتعجل فيورد نتائج لا يُسْلِم إليها ما ساقه من مقدمات، أو يعمم الكلام بدلا من أن يقصره على الحالة التى أمامه، أو يستخلص أفكارا لا تستند إلى شىء. ومع ذلك فقد كان لكتابه هذا، وهو "أول كتاب أثار فى إسهابٍ مشكلة الانتحال فى الشعر الجاهلى" كما يقول د. شوقى ضيف (العصر الجاهلى/ ط24/ دار المعارف/ 164)، أثره الشديد على دارسى الشعر الجاهلى فى العصر الحديث، إذ رأينا ديفيد صمويل مرجليوث ( عز وجل. S. Margoliouth) وطه حسين ينفيان صحة الشعر الجاهلى: فأما المستشرق البريطانى فقد رده كله زاعما أن نَظْم الشعر لم يعرفه العرب إلا فى العصر الأموى، وأما قبل ذلك فقد عرفوا السجع أولا ثم الرجز من بعده. وقد سبق أن رددتُ على كل ما قاله مرجليوث وبينت تهافته فى كتابى: "أصول الشعر العربى"، الذى ترجمتُ فيه بحثه فى هذاالموضوع وعلقت عليه وتناولته بالدراسة بما يغنينى عن إعادة القول فيه هنا، وإن كان من الممكن بل ينبغى أن نضيف هذه المعلومة الشديدة الأهمية التى ذكرها رينيه باسيه ( René رضي الله عنهasset) فى كتابه: " anté-islamique La poésie arabe " ( طبعة صلى الله عليه وسلمrnest Leroux, Paris, 1880)، إذ يتحدث المستشرق الفرنسى (27 P.) عما كتبه سوزومين المؤرخ الإغريقى الكنسى (القرن 5م) من أن إحدى ملكات العرب فى القرن الرابع قد انتصرت على القوات الرومانية الموجودة فى فلسطين وفينيفية فأخذت الرعية تحتفل بهذا الانتصار مرددة الأغانى الشعبية، وإن لم يصلنا من ذلك شىء ولو عن طريق الترجمة، وهو ما أَسِفَ له باسيه. ومعنى هذا لديه أن هناك شعرا عربيا ينتمى إلى القرن الرابع قبل الإسلام. أى أن الشعر الجاهلى لا يعود إلى ما قبل دين محمد بقرن أو قرن ونصف فقط كما كنا نردد. لا بل لا بد أنه يمتد إلى ما وراء القرن الرابع نفسه لأنه لا يُعْقَل أن يكون العرب قد وصلوا إلى نظم مثل تلك الأغانى إلا بعد أن كان فن الشعر قد نضج عندهم تماما. وعند د. عمر فروخ أن "الشعر الذى وصل إلينا من الجاهلية يمثل دورا راقيا لا يمكن أن يكون الشعر قد بلغ إليه فى أقل من ألفى سنة على الأقل، غير أنه لم يصل إلينا من ذلك الشعر الأول شىء" (د. عمر فروخ/ تاريخ الأدب العربى/ ج1 - الأدب القديم من مطلع الجاهلية إلى سقوط الدولة الأموية/ ط4/ دار العلم للملايين/ بيروت/ 1981م/ 73).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015