حتى أتى على آخرها. فأقبل عليه ابن الأزرق فقال: الله يا ابن عباس! إنا لنضرب إليك أكباد المطيِّ من أقاصي الأرض لنسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنّا، ويأتيك مترف من مترفي قريش فينشدك:

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت * فيَخْزَى، وأما بالعشيِّ فيَخْسَرُ

فقال ابن عباس: ليس هكذا قال. قال:

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت * فيَضْحَى، وأما بالعَشِيِّ فيَخْصَرُ

قال: ما أراك إلا وقد حفظتَ البيت. قال: نعم. وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتكها. قال: فإني أشاء. قال: فأنشده القصيدة حتى جاء على آخرها، ثم أقبل على ابن ربيعة فقال: أَنْشِدْ. فقال:

تشطّ غدًا دار جيراننا

فقال ابن عباس: ولَلدّارُ بعد غدٍ أبعدُ.

فقال: كذاك قلت، أصلحك الله. أَسَمِعْتَه؟ قال: لا، ولكن كذلك ينبغي". وفى "العمدة" لابن رشيق: "سئل ابن عباس: هل الشِّعْر من رَفَث القول؟ فأنشد:

وهنّ يمشين بنا هميسَا * إن تصدق الطير نَنِكْ لَمِيسَا

وقال: إنما الرفث عند النساء، ثم أحرم للصلاة. وكان ابن عباس يقول: إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب. وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أَنْشَدَ فيه شعرا".

ولقد قرأت للمستشرق الفرنسى م. نويل ديفرجيه فى كتابه: " صلى الله عليه وسلمrabie" كلمة دقيقة تبدو وكأنه كتبها خِصِّيصًا للرد على ابن سلام مؤدَّاها أن هُيَام العرب بالشعر كان من العنفوان بحيث لم يستطع ضجيج المعارك والحماس الحربى والتعصب الدينى فى المراحل المبكرة من تاريخ الإسلام أن يقضى على المنافسات والخصومات الشعرية بينهم ( M. Noel عز وجلesvergers, صلى الله عليه وسلمrabie, Firmin عز وجلidot Frères, Paris, P. 133). وهذا نص كلامه بالفرنسية: “ Telle était la passion des صلى الله عليه وسلمrabes pour la poésie, que dans les premiers temps de l'islamisme, alors que les nouvelles destinées de la nation s'accomplissaient au milieu du tumulte des combats, ni l'ardeur guerrière, ni le fanatisme religieux ne pouvaient faire oublier les querelles littéraires”.

لقد كان صوت الشعر يدوى فى كل مناسبة: فى الغزو وفى الرثاء وفى الفخر وفى الغزل وفى المديح وفى الوصف وفى الوفود على النبى وفى الاعتذار له صلى الله عليه وسلم ... إلخ. فكيف طاوعت ابنَ سلام نفسُه على قول هذا الكلام؟ هل كان الناس جميعا يشاركون فى الحروب والغزوات؟ وهل كانت الحروب والغزوات تستغرق تماما المشاركين فيها بحيث لا يجدون وقتا البتة ينفقونه فى تناشد الشعر، بله فى نظمه؟ إن العرب طوال تاريخهم لم يكفوا عن التحارب بل التناحر فيما بينهم، ومع هذا لم يتوقفوا يوما عن قول الشعر وإنشاده والاستمتاع بالإنصات إليه، بل كانت الحروب والغزوات نفسها مبعث إلهام وإبداع للشعراء، فلماذا يشذ الأمر فى غزوات الإسلام وفتوحه بالذات؟ كذلك فإنه، غفر الله له، قد وقع فى تناقض أبلق فى هذه الفقرة الصغيرة التى بين أيدينا التقطه د. ناصر الدين الأسد وسجله عليه فى كتابه: "مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية" (دار الجيل/ بيروت/ 195 - 196)، وهو قوله عن الشعر الجاهلى إن العرب "راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مُدَوَّن ولا كتاب مكتوب" ليستدير فيقول بعده بأسطر قليلة إنه "كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مُدِح هو وأهل بيته به. صار ذلك إلى بنى مروان أو صار منه". وهو ما يبين لنا أننا ينبغى أن نأخذ ما يقوله ابن سلام ونحن مفتوحو الأعين والأذهان.

ثم يمضى عالمنا الجليل قائلا: "ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه قلة ما بقى بأيدى الرواة المصحِّحين لطَرَفة وعَبِيد، اللذين صح لهما قصائد بقدرِ عَشْر. وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وُضِعا من الشهرة والتقدمة. وإن كان ما يُرْوَى من الغثاء لهما فليس يستحقان مكانهما على أفواه الرواة. ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، غير أن الذى نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذاك. فلما قَلَّ كلامهما حُمِل عليهما حملٌ كثير. ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل فى حاجته. وإنما قُصِّدَت القصائد وطُوِّل الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف، وذلك يدل على إسقاط شعر عادٍ وثمودَ وحمير وتُبَّع".

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015