فأتى مغار الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد"

ويبقى التمييز بين الدراهم والدنانير، ولا شك أن الصيرفى يعتمد على مقياس معين فى هذا الصدد، إذ لا يصح الزعم بأنه يتلقى فى كل مرة إلهاما من السماء ينزل عليه بغتة. ولقد قال ابن سلام إنه لا بد للصيرفى حينئذ من المعاينة، فهذا هو المعيار، مثلما أن هناك أشياء أخرى معيارها ذوق اللسان، وثالثة معيارها اللمس، ورابعة معيارها السمع ... وهكذا. أما التسليم الأعمى الذى يطلبه ابن سلام من القارئ فهو كلام بعض المتصوفين، إذ يَرَوْنَ أنه لا بد للمريد أن يكون كالخِرْقَة فى يد الشيخ يفعل بها ما يشاء دون أن يكون لها اعتراض أو استفسار، إذ متى كانت الخِرَق تعترض أو تستفسر؟ لكن كلا وحاشا أن يكون هذا هو وضع القارئ تجاه الناقد الذى يسترشد برأيه وذوقه!

نعم لا مشاغبة فى أن ثم منطقا قويا فى كلام ابن سلام التالى الذى يحكى لنا فيه أنه "قال قائل لخلف (يقصد خلفا الأحمر): إذا سمعتُ أنا بالشعر أستحسنه فما أبالى ما قلتَ أنت فيه وأصحابك. قال: إذا أخذتَ درهما فاستحسنتَه، فقال لك الصراف: إنه ردئ، فهل ينفعك استحسانك إياه؟ ". لكن هنا شيئا غائبا لا تكتمل الصورة إلا به، وهو أن على العالم فى هذه الحالة أن يشرح لسائله لم يرفض نسبة هذه القصيدة إلى فلان ولم يقبل تلك، إذ ليس من المعقول أن يكتفى بإصدار فتواه دون أن يكون لنا الحق فى التساؤل والرغبة فى أن تطمئن قلوبنا. إن الله ذاته جل جلاله لم يطلب من عبده إبراهيم ذلك، بل حين أراد إبراهيم عليه السلام البرهان على ما كان ربه قد طلب منه الإيمان به أراه سبحانه وتعالى البرهان حتى يرتاح قلبا كما قال فى ابتهاله إليه.

أما التمثيل بالجوارى والمغنين والمغنيات، ومثلها الأطعمة والملابس وما إلى ذلك، فهو شىء مختلف، إذ مدار الأمر هنا على الذوق، والذوق مسألة شخصية، وإن كان هذا الذوق الشخصى قابلا للتعليل بكل تأكيد، وإن كان كثيرا ما يصل من الخفاء إلى الدرجة التى لا يستطيع صاحبه عندها أن يفتى بشىء. وقد يكون تفضيل جارية على جاريةٍ مشابهةٍ لها أن المفضَّلة أدلّ وأخفّ دما، أو أن شفتها ممتلئة قليلا أو فى صوتها بحة مثلا أو تميل إلى الامتلاء فى مجتمع يتعلق ذوق الناس فيه بالمرأة الممتلئة. وقد يكون كل ذلك غير واضح لمن فضّل تلك الجارية، لكن المهم أنه يحس بدخولها هى بالذات مزاجه دون مثيلاتها المشبهات لها. وعلى كل حال فالأمر هنا أمر إحساس شخصى لا مشاحّة فيه.

وجريًا على هذه السُّنَّة يكتب ابن سلام بعد ذلك فى ترجمة امرئ القيس مثلا ما يلى: "وجدنا رواة العلم يغلطون فى الشعر، ولا يضبط الشعر إلا أهله. وقد تروى العامة أن الشعبى كان ذا علم بالشعر وأيام العرب. وقد رُوِىَ عنه هذا البيت، وهو فاسد. ورُوِىَ عنه شىء يُحْمَل على لبيد:

باتت تَشَكَّى إلى النفس مُجْهِشةً * وقد حملتُكِ سبعًا بعد سبعينِ

فإن تعيشى ثلاثا تبلغى أملا * وفى الثلاث وفاءٌ للثمانينِ

ولا اختلاف فى أن هذا مصنوع تكثر به الأحاديث ويستعان به على السهر عند الملوك، والملوك لا تستقصى". نعم، الملوك بوجه عام لا تستقصى، إلا أن يكونوا ملوكا علماء، لكن على العلماء أيضا، ملوكا وغير ملوك، إبداء الدليل والمعيار، وإلا فلا فرق بينهم وبين من لا يستقصى من الملوك!

ثم شرع ابن سلام يهاجم محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية قائلا: "وكان ممن أفسد الشعر وهجّنه وحمل كل غُثَاء منه محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسِّيَر. قال الزهرى: لا يزال فى الناس عِلْمٌ ما بَقِىَ مولى آل مخرمة. وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك، فقبل الناس عنه الأشعار. وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لى بالشعر. أُتِينا به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرا. فكتب في السِّيَر أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرا قط وأشعار النساء، فضلا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارا كثيرة، وليس بشعر. إنما هو كلامٌ مؤلَّفٌ معقودٌ بقوافٍ؟ أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف من السنين، والله تبارك وتعالى يقول: "فقُطِع دابر القوم الذين ظلموا"، أى لا بقية لهم؟ وقال أيضا: "وأنه أهلك عادًا الأولى* وثمودَ فما أبقى"، وقال فى عاد: "فهل ترى لهم مِنْ باقية؟ "، وقال:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015