وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول:" قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]:" يا عائشة. هذا جبريل يقرئك السلام " قلت: وعليه السلام ورحمة الله. قالت: وهو يرى ما لا نرى ".

وهذا زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على فخذه , وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه.

وهؤلاء هم الصحابة - رضوان الله عليهم - في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول [صلى الله عليه وسلم] فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه , فيعود إليهم ويعودون إليه. . . .

ثم. . أية طبيعة.

طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم؟

أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي , ويختلط بذلك العنصر , ويتسق مع طبيعته وفحواه؟

إنها هي الأخرى مسألة!

إنها حقيقة. ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد , لا تكاد المدارك تتملاه.

روح هذا النبي [صلى الله عليه وسلم] روح هذا الإنسان. كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي؟ كيف كانت تتفتح؟ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض؟ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود ; والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله؟

ثم. .

أية رعاية؟ وأية رحمة؟ وأية مكرمة. .

والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان.

فيوحي إليها لإصلاح أمرها , وإنارة طريقها , ورد شاردها. . وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان , حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض.

إنها حقيقة.

ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء:

(وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان. ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. ألا إلى الله تصير الأمور).

(وكذلك).

بمثل هذه الطريقة , وبمثل هذا الاتصال.

(أوحينا إليك). .

فالوحي تم بالطريقة المعهودة , ولم يكن أمرك بدعا.

أوحينا إليك (روحاً من أمرنا). . فيه حياة , يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود.

(ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان). .

هكذا يصور نفس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو أعلم بها , قبل أن تتلقى هذا الوحي.

وقد سمع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الكتاب وسمع عن الإيمان , وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم , وأن لهم عقيدة , فليس هذا هو المقصود.

إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير. وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله.

(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء). .

وهذه طبيعته الخالصة. طبيعة هذا الوحي. هذا الروح. هذا الكتاب. إنه نور. نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به , بما يعلمه من حقيقتها , ومن مخالطة هذا النور لها.

(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم). .

وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة , مسألة الهدى , بمشيئة الله سبحانه , وتجريدها من كل ملابسة , وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص , الذي لا يعرفه سواه ; والرسول [صلى الله عليه وسلم] واسطة لتحقيق مشيئة الله , فهو لا ينشى ء الهدى في القلوب ; ولكن يبلغ الرسالة , فتقع مشيئة الله.

(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض). .

فهي الهداية إلى طريق الله , الذي تلتقي عنده المسالك. لأنه الطريق إلى المالك , الذي له ما في السماوات وما في الأرض ; فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض , وقوى السماوات والأرض , ورزق السماوات والأرض , واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم. الذي إليه تتجه , والذي إليه تصير:

(ألا إلى الله تصير الأمور). .

فكلها تنتهي إليه , وتلتقي عنده , وهو يقضي فيها بأمره.

وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه , ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين.

وهكذا تنتهي السورة التي بدأت بالحديث عن الوحي. وكان الوحي محورها الرئيسي.

وقد عالجت قصة الوحي منذ النبوات الأولى.

لتقرر وحدة الدين , ووحدة المنهج , ووحدة الطريق.

ولتعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد [صلى الله عليه وسلم] وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة.

ولتكل إلى هذه العصبة أمانة القيادة إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.

ولتبين خصائص هذه العصبة وطابعها المميز , الذي تصلح به للقيادة , وتحمل به هذه الأمانة. الأمانة التي تنزلت من السماء إلى الأرض عن ذلك الطريق العجيب العظيم. .

(في ظلال القرآن)

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015