وقوله تعالى: (لِلطَّاغِينَ مَآَبا) الطغيان هو مجاوزة الحد, فإذا تجاوز العبد حده كان حقيقاً بالعذاب, إلا أن يتجاوز الله تعالى عنه. والله يمكن أن يتجاوز عن كل شيء إلا عن ذنب واحد، هو الشرك, قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء/48]. لكن لا ريب أن مرتكب الكبيرة مجازف، مخاطر. ومعنى (مَآَبا) أي: مرجعاً، ومصيراً. فالأوب: بمعنى الرجوع، والمصير.

وقوله تعالى: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا): معنى (لَابِثِينَ) أي: ماكثين, و (أَحْقَابًا) جمع حقب. والمقصود بالأحقاب: المُدد الطويلة. وقد ورد تقديرها في أحاديث مرفوعة، وموقوفة، وآثار عن بعض التابعين؛ فمنهم من قال: الحقب: ثمانون سنة، كل سنة فيها اثني عشر شهراً, كل شهر فيه ثلاثون يوماً، وكل يوم بألف سنة. ومنهم من قال: سبعون سنة، على التقسيم السابق. ومنهم من قال: أربعون. ومنهم من قال أكثر، ومنهم من قال أقل. وعلى أي حال، فالأحقاب تدل على مدد طويلة، لكن ها هنا قد يثور إشكال، فربما قال قائل: وماذا بعد الأحقاب؟ أيخرج أهل النار، الذين هم أهلها، منها، أم لا؟ فالذين فسروا الأحقاب بالمدد الطويلة، خرجوا من هذا الإشكال، بأن قالوا: المراد بأنهم (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) أي: حقباً إثر حقب, بحيث لا يتناهى, فهذا خلود مستمر، لا انقطاع فيه. وأما من قال: إن أهل النار، الذين هم أهلها، يخرجون منها بعد مدد طويلة, فربما استدل بهذه الآية على خروجهم. لكن الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة، أن أهل النار، الذين هم أهلها, دعك عن عصاة الموحدين, أي: الكفرة، والمشركون, لا يخرجون منها أبداً؛ لأن الله عز وجل ذكر التأبيد في خلودهم، في كتابه، في ثلاثة مواضع. وذهب ابن جرير الطبري، رحمه الله، إلى توجيه آخر، فقال: إن متعلق قوله (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) بما بعدها، وهو قوله: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا) أي: أنهم في نوع، ولون، من أنواع، وألوان الجحيم, يمكثون فيه هذه الأحقاب, ثم ينتقلون إلى لون آخر. فيكون هذا التحديد، في هذه المدة، تختص بلون، ونوع، من أنواع العذاب.

ومعنى (برداً): الهواء البارد، أو الماء البارد. وقيل: إن المقصود بالبرد: النوم, فإن العرب تسمي النوم برداً. وقوله: (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) هذا الاستثناء استثناء منقطع، لأنك لو رفعت (إِلَّا) ووضعت بدلاً منها (بل) صح المعنى, أي: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا) بل يذقون (حَمِيمًا وَغَسَّاقًا). والحميم: هو الماء المتناهي في الحرارة, شديد الغليان, حتى أنهم، والعياذ بالله، إذا استسقوا، أتوا بالحميم ليشربوه، فتسقط جلدة وجهه فيه، كما أخبر الله، عز وجل، عن ذلك في سورة الكهف، و غيرها، قال تعالى: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف/29]، وقال: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد/15] فهذه سقيا أهل النار، والعياذ بالله، الحميم، وبئس الشراب. وأما الغساق، فقد ورد ذكره في القرآن في غير هذا الموضع, قال تعالى: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) [ص/57، 58]. فالغساق، المراد به صديد أهل النار، وما يخرج من قيحهم، وجروحهم، ودموعهم، وغير ذلك من أذاهم، الذي يساق إليهم. وقيل: إن الغساق معناه: المنتن. ولا تنافي بين المعنيين, فإنه يكون من صديد أهل النار، وقروحهم، وجروحهم، ويكون أيضاً منتناً. ووصف أيضاً بأنه بارد, فهو يأتيهم على هذه الصفة ويكون بارداً، متنناً، والعياذ بالله.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015