وإذا كان النسيان قد وقع من الأنبياء السابقين عليهم السلام فإنه قد وقع من نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم فجاءت الآية في ذلك: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً، إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً) [الكهف: 23 ـ 24].

فقد روى ابن إسحاق (41) والطبري في أول سورة الكهف (42) والواحدي في سورة مريم (43): أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف وذي القرنين وعدهم بالجواب عن سؤالهم من الغد ولم يَقُل " إن شَاءَ الله " فلم يأته جبريل عليه السلام بالجواب إلا بعد خمسة عشرَ يوماً. وقيل: بعد ثلاثة أيام.

قال ابن عاشور: " فكان تأخير الوحي إليه بالجواب عتاباً رمزياً من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام كما عاتب سليمان عليه السلام ... ثم كان هذا عتاباً صريحاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أهل الكهف وعد بالإجابة ونسي أن يقول: «إن شاء الله» كما نسي سليمان، فأعلم الله رسوله بقصة أهل الكهف، ثم نهاه عن أن يَعِد بفعل شيء دون التقييد بمشيئة الله" (44).

وبهذا يتبين أن ما استنكره الكردي هنا؛ واقعٌ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وغير قادح في مقامهم الكريم، ولا ينقص من قدرهم وعلوّ شأنهم، إذ هم المصطفون من ربهم لتبليغ رسالات الله تعالى، وهم أكرم الخلق على الله تعالى.

ولعل الكاتب هنا لم يلتفت إلى كل ما سبق، بل لم ينتبه إلى وقوع العتاب في القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما آية، والظاهر أن الهوى كما قيل يُعمي ويُصمّ، وقد قال تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) [ص: 26]. نعوذ بالله من الخذلان.

ثالثاً: أن النسيان يطلق في اللغة بمعنى الترك ولو مع الذكر:

وقد استنكر الكردي ذلك فقال: " ومن الغرائب ما ورد في أحد طرق الحديث من أن سليمان ـ بعد ما ذكّره صاحبه ـ لم يقل ونسي، هذا في حين أن النسيان قد يقع عند عدم التذكير، أما إذا ذكر الإنسان بقول شيء، ومع ذلك لم يقله، فهذا لا يسمى نسياناً! " (45).

والقارئ في كلامه ذلك يحسب أن الرجل قد استقرأ كتب اللغة والمعاجم فلم يجد ذلك، بينما الحقيقة أن ذلك الاستعمال موجود في كلام العرب بل في القرآن العظيم الذي لا يُتصور أن الكاتب لم يقرأه.

قال الشنقيطي: " والعرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمداً، ومنه قوله تعالى: (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى) [طه: 126] " (46).

وقال الراغب الأصفهاني: " النسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع؛ إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره" (47).

وقال ابن فارس: " النون والسين والياء أصلانِ صحيحان: يدلُّ أحدهما على إغفال الشيء، والثاني على تَرْك شيء" (48).

فهذه كتب اللغة وأئمتها ناطقون بنقيض ما يقوله الكردي الخابط بغير علم، ولا شك من أن حبل الكذب قصير كما قال هو نفسه (49).

رابعاً: ما العجب في تقدير الله تعالى ذلك على سليمان عليه السلام:

إذا علمنا فيما سبق أن هذا الفعل لا يقدح في مقام النبوة؛ فليس في المقام ما يُتعجب منه، فالله تعالى قد أخبر أنه ابتلى الأنبياء في القرآن وعاتبهم: آدم، ونوحاً، وأيوب، وسليمان وغيرهم عليهم أزكى الصلاة وأتم السلام.

قال تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب) [ص: 34].

وقال: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) [ص: 41].

وقال: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً) [طه:115].

وقال: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) [هود: 46].

وقال لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) [التوبة: 43].

وقال: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) [الأنفال: 67].

وقال: (عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى) الآيات [عبس: 1 ـ 3].

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015