ففي بداية آية الحج يبين الله تعالى للمنكرين للبعث، والشاكين في حدوثه؛ ما يذكرهم كيف بدأ وجودهم في الحياة، ومراحل الضعف التي مروا بها؛ فبدايتهم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، وفي هذه المراحل لم يكن للإنسان صورة الإنسان، ويخشى عليه من السقوط، ثم يقر الله ما يشاء منهم في الأرحام إلى أجل يخرج بعدها طفلا لا يعلم شيئًا، ثم يعطيه تعالى من العلم والقوة حتى يبلغ أشده، وبعدها إما الموت المبكر له، وإما بلوغ أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا.

فقد فصل تعالى مراحل عمره وكلها في الضعف إلى مرحلة واحدة؛ هي بلوغ أشده من بين تلك المراحل، وفي نهاية أمره أنه انتهى إلى ما بدأ فيه من الضعف، فالضعف عاد إليه، واستمر في الضعف ابتداء وانتهاء، ولتواصل الضعف عليه؛ كتبت لكيلا موصولة لبيان هذا التواصل من الضعف فإن من التواصل العودة لما فارقه.

وتدل هذه الآية على أن القدرة له في حفظ العلم ضعفت ولم يبق من العلم إلا القليل، وقد بينت هذا أيضًا "من" التبعيضية (لكيلا يعلم من بعد علم)، أو أنه لم يأخذ من العلم إلا القليل، وفقده في آخر العمر؛ فتواصل عليه الضعف عودًا على بدء.

وأما قطعها في قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) النحل.

فقطعت (لكي لا) في هذا الموضع خلافًا لوصلها في الموضع السابق المشابه له من سورة الحج، ويكشف أيضًا سر هذا القطع مقدمة الآية؛ فقد بين تعالى أن الله خلقنا فأعطانا الحياة، ثم يتوفانا فينزع منا الحياة، وأعطانا العلم، ثم ينزعه ممن بلغ أرذل العمر منا؛ فالعلم أعطي ثم قطع كما أعطيت الحياة ثم قطعت بالوفاة، فجاءت كتابة (لكي لا) مقطوعة لتبين القطع الذي حدث للعلم ولم يؤت بمن التبعيض في هذه الآية كما جيء بها في السابقة.

والفرق بين الآيتين أن في آية الحج تواصل الضعف عليه وبقي من العلم القليل، وفي آية النحل قطع هذا العلم فلم يبق منه شيء، والمثالين موجودين في حياة الناس ممن بلغ أرذل العمر.

ومما لا شك فيه من الأمثلة التي يعرفها الناس أن فقدان العلم للعالم قليل، ويبق لديه مما يحفظ له شخصيته، وأما الجاهل قليل العلم ففقده كبير لما تعلمه في الحياة، فيسوء حاله في آخر عمره، حتى لا يحفظ شيئًا من أمور الحياة؛ وقد يضل عن بيته لذلك، فيظل تحت مراقبة أهله حتى لا يفقد أو يضع نفسه في مهلكة.

فهؤلاء الذين قطع عنهم العلم؛ لم يذكر تعالى في بداية الآية أنه أعطاهم علمًا، فهم في حكم الجهلاء قليلوا العلم، وهم الأشد سوءا عندما يبلغوا أرذل العمر، والله تعالى أعلم بعباده.

وقطعت في قوله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) الأحزاب.

كان ادعاء الأبناء وتبنيهم وجعلهم كالأولاد من الصلب عادة متأصلة عند العرب، حتى أن قريشًا عرضت على أبي طالب من أبنائها مقابل محمد عليه الصلاة والسلام ليقتلوه، وقد بين تعالى في بداية سورة الأحزاب حكمه في هذا الأمر بقوله تعالى: ( ... وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ (5) الأحزاب.

ولم يكف بيان الحكم عند الناس للأخذ به لشدة تأصله فيهم، فكان لا بد لاستئصال هذه العادة؛ أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بتطبيق ذلك الحكم بنفسه بزواجه من مطلقة زيد بن ثابت، الذي تبناه النبي قبل الإسلام، وكان يسمى بزيد بن محمد؛ ليكون في تطبيقه هذا الحكم الشديد عليه؛ قدوتهم وإمامهم في تطبيقه.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015