ومن العرض السابق يتبين أن كفة القول الثاني هي الراجحة من حيث كثرة المختارين له؛ فقد اختاره الفراء، والنحاس، وأبوحيان، وابن عاشور.

وقد وافقهم السمين الحلبي على اخياره أيضاً، فوافق أبا حيان في حكمه عليه بأنه القول الظاهر من لفظ الآية، وأضاف: (ولا محذور في ذلك من حيث المعنى، وإن كان بعض الناس استصعب كون المؤمنين يكونون كافين النبي r .)([18])

وقد صرح بترجيح القول الأول جماعة من المفسرين، ومنهم: أبوسليمان الدمشقي فقد صرح بأن القول الأول أصح ([19])، والشنقيطي؛ فقد ذكر أن الآيات القرآنية تدل على تعيّن هذا القول، وأن المعنى: كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين لدلالة الاستقراء في القرآن على أن الحسب والكفاية لله وحده. ثم ذكر الآيات التي أوردها ابن القيم في كلامه السابق. ([20])

النتيجة:

لا يخفى أن الآية الكريمة محتملة للفظين من جهة اللفظ، وأكثر المعربين على أن احتمال الآية للقول الثاني أظهر من هذه الجهة.

أما من جهة المعنى؛ فإن القول الأول هو المتعين؛ لأن معناه هو المعنى الذي دلت عليه الآيات القرآنية التي ذكرها ابن القيم – رحمه الله – في كلامه السابق، الذي يعتبر من أقوى ما اطلعت عليه في تقرير هذا المعنى.

وقد تقرر أن المقدّم في مثل هذا الحال: مراعاة المعنى؛ لأن كلام الله U ينبغي حمله على أكمل المعاني، وأفضلها.

تنبيهات وفوائد:

التنبيه الأول: نوع الخلاف وثمرته:

الخلاف السابق بين القولين في معنى الآية خلاف تنوع من جهة احتمال اللفظ لهما، وخلاف تضاد من جهة المعنى؛ إذ القائلون بالقول الأول ينفون القول الثاني، ويبطلونه.

وثمرة الخلاف تظهر من جهتين:

الجهة الأولى: الجهة النحوية؛ فينبغي أن تعرب الآية على المعنى الصحيح.

الجهة الثاني - وهي الأهم -: الجهة العقدية؛ فعلى القول الأول تفيد الآية ما أفادته آيات أخرى كثيرة من أن التوكل لا يكون إلا على الله وحده، وأن الكافي والحسيب هو الله وحده – جل وعلا -.

وعلى القول الثاني تفيد الآية أن لغير الله نوعاً من الكفاية والحسب.

التنبيه الثاني: سبب الخلاف:

الخلاف السابق له سببان ظاهران:

الأول: الاختلاف في وجوه الإعراب.

والثاني: الاختلاف العقدي بين المفسرين في مسألة الكفاية والحسب؛ هل هي لله وحده، أم يجوز أن يكون لغيره نوع منها؟

التنبيه الثالث: من أسباب الخطأ في التفسير: أن يراعي المفسر، أو المعرب ما يقتضيه ظاهر الصناعة النحوية، ولا يراعي المعنى. وكثيراً ما تزل الأقدام بسبب ذلك. وقد سبق التنبيه على هذا السبب.

التنبيه الرابع: من أنواع بيان القرآن للقرآن: أن يكون في الآية قولان، وتكون الآيات القرآنية الأخرى دالة على معنى أحد هذين القولين؛ فيُرجح هذا القول.)

الحواشي السفلية:

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) (هذا الشاهد منسوب لجرير كما في أمالي القالي 2/ 261، وكذا في ذيل الأمالي والنوادر للقالي 141 وهو غير موجود في ديوانه المطبوع) هكذا قال الدكتور زهير غازي زاهد في تعليقه على إعراب القرآن للنحاس 2/ 195. وكل من استشهد بهذا البيت – فيما وقفت عليه - لم يذكر له قائلاً. وهو شاهد مشهور متداول في كتب التفسير وإعراب القرآن.

([2]) انظر إعراب هذه الآية في إعراب القرآن للنحاس 2/ 194 - 195، ومشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب ص305، والتبيان في إعراب القرآن للعكبري2/ 631، والدر المصون للسمين الحلبي 5/ 631 - 634.

([3]) زاد المعاد 1/ 35 - 37، وبدائع التفسير 2/ 341 - 343.

([4]) نسبه إليه من رواية أبي صالح ابنُ الجوزي في زاد المسير 3/ 377.ولم أره في الكتب المسندة التي وقفت عليها.

([5]) أخرجه عنه البخاري في تاريخه 4/ 261، وابن جرير في تفسيره 14/ 49 من عدة طرق. انظر الدر المنثور للسيوطي 7/ 193.

([6]) أخرج قوله ابن جرير في تفسيره 14/ 49.

([7]) انظر تفسير مقاتل بن سليمان 2/ 124.

([8]) أخرج قوله أبو محمد إسماعيل بن علي الخُطبي في الأول من تحديثه بلفظ: حسبك الله والمؤمنين. انظر الدر المنثور للسيوطي 7/ 193.

([9]) يقصد به الفراء في انظر كتابه معاني القرآن 1/ 417؛ فقد ذكر أن هذا أحب الوجهين إليه.

([10]) انظر جامع البيان 14/ 48 - 50.

([11]) انظر المحرر الوجيز 6/ 368 - 369.

([12]) انظر التفسير الكبير 15/ 153.

([13]) انظر الجامع لأحكام القرآن 8/ 43.

([14]) انظر البحر المحيط 5/ 348 - 349.

([15]) انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 1607.

([16]) الفذلكة مأخوذة من قولهم: "فذلك كذا"، وهي في كلام العلماء: إجمال ما فصّل أولاً. كذا ذكر الخفاجي في حاشية البيضاوي. انظر كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوني 2/ 1264. [ط: مكتبة لبنان – ناشرون – الأولى – 1996].

([17]) التحرير والتنوير باختصار 10/ 65.

([18]) الدر المصون 5/ 632.

([19]) نقل ترجيحه ابن الجوزي في زاد المسير 3/ 377.

([20]) انظر أضواء البيان 2/ 372 - 373.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015