ورد لفظ الفصاحة في القرآن الكريم في قوله تعالى: "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا" وقد وصف اللسان هنا بـ (الفصاحة)، وهذا يشير - وبصورة مباشرة - إلى أن الفصاحة متعلقة بالصوت واللفظ وليس لها أي تعلق بالمعنى -خلافا لما ذهب إليه الجرجاني، ويقال أن موسى عليه السلام كان في حجر فرعون - وهو صبي وليد - فلطم فرعون لطمة قوية، وأخذ بلحيته فنتفها؛ فغضب فرعون ودعا الذباحين الذي كان يأمرهم بذبح أبناء بني إسرائيل؛ فقالت امرأة فرعون: على رسلك؛ فإنه صبى لا يفرق بين الأشياء، ثم أتت بطستين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر؛ فأخذ موسى جمرة فوضعها في فيه على لسانه؛ فأحدث ذلك في لسانه رتة أو لثغة ولهذا كان فرعون يسخر منه عندما أرسل بقوله: " أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ " فالفصاحة هنا هي سلامة الصوت، وليس سلامة المعنى بحال، وهذا المفهوم يوافق تماماً مفهوم الفصاحة عند الجاحظ، حيث تراه يتحدث عن العيوب الصوتية كالتمتمة واللجلجة واللتغة والحبسة والحكلة واللفف والرتة والتقعير وغيرها من العيوب، وإذا كانت هذه الأمور الصوتية بالغة الأهمية عند الجاحظ فإنه قد استشهد بقول الشاعر في مدح خطبة:

صحت مخارجها وتمّ حروفها فله بذاك مزية لا تنكر

ومن المهم جداً ملاحظة أن الجاحظ لا يتناول صوت المفردة المجردة إطلاقاً؛ وإنما يتناول صوت الكلام مضموماً إلى بعضه عند النظم؛ ولهذا فإن مفهوم الفصاحة هو: جمال صوت الحروف وصوت المفردات وصوت الجمل عند النظم والتركيب، ومعلوم أن أهم محاسن الكلام - أن يرتبط بعضه ببعض وتلتئم أجزاؤه وتتفق مبانيه وتتناسب أطرافه وتنسجم مكوّناته؛ ويغدو سلس النظام خفيفا على اللسان حتى لكأنه بأسره كلمة واحدة؛ فيسلم بذلك من التفرّق والتنافر والتباين والاختلاف؛ يقول سيد قطب: (والتناسق المطلق الشامل هو الظاهرة التي لا يخطئها كل من تدبّر القرآن أبداً) ويقول ابن عطية - الذي جعل الصوت أحد وجوه المزية-: (وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه)، ولا شك أن تجانس الألفاظ وانسجام أصواتها أمر تتفاوت فيه الأعمال الإبداعية تفاوتا بينا؛ حتى يصل إلى درجة الإعجاز في القرآن؛ حيث تكاد الأصوات المجردة أن تعبر عن معانيها من شدة دلالتها عليها. وهذا المفهوم البسيط هو المفهوم الذي نعتمده في هذه الدراسة، ولكن ذلك يستلزم شروطاً لا بد من مراعاتها، وهي:

1/ القرآن هو معيار الفصاحة:

اتفق أهل اللغة على أن الاعتداد بصحة اللغة وجعلها معياراً ينحصر في حقبة زمنية معينة؛ وهي العصر الذي سموه بعصر الاحتجاج؛ وأجمعوا على أن القمة التي لا تدرك والشأن الذي لا ينال في ذلك العصر هو القرآن، أي:أنه أفصح الفصيح؛ ولهذا فإن الجاحظ عندما فاضل بين لغة أهل البصرة وأهل مكة إنما فاضل بينهما بقربهما أو بعدهما عن القرآن، ولما كان الأمر كذلك؛ فليس من المعقول أن تصادم قواعد المتأخرين - الذين لم يعاصروا الفصاحة – القرآن؛ فنسلم بصحتها ابتداء، بل نقول بعدم صحة استنباطهم؛ وإن كانت هنالك أمور كثيرة غير ذلك تقدح في ذلك الاستنباط أيضا.

2/ الإعجاز مزية تجددت في اللغة:

معلوم أن مفردات اللغة ليست بمعجزة؛ وإن كانت مأخوذة من القرآن؛ إذ أنها مفردات متاحة ومستخدمة عند كل أحد من العرب؛ فلا يمكن الإعجاز فيها بحال، وهذا يقتضي أن يكون هنالك سبب حدث ومزية قد تجددت عند استخدام هذه المفردات في القرآن؛ يقول الجرجاني: (إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفا قد تجدد بالقرآن وأمرا لم يوجد في غيره ولم يعرف قبل نزوله وإذا كان كذلك فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في الكلم المفردة) أي: هو في النظم بلا شك.

3 - النظم

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015