أما القول الأول: وهو أنه لا تناسب بين الآيات، بل تنزل الآية بحسب الوقائع، وتوضع في المصحف بحسب ما يأمر الله جل وعلا جبريل به فيأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ضعها في سورة كذا في موضع كذا، وأنّ هذا بحسب الوقائع وحسب الأحوال، ولا يقتضي ذلك تناسبا بين الآية والآية، وصلة بين الآية والآية.

و القول الثاني: أنّ سور القرآن لا تخلو سورة إلا ولها موضوع، وليس ثم آية وبعد آية إلا وبينها تناسب وصلة، وأنه بين أول السورة وبين ختام السور تناسب، وأنه بين آخر السورة وأول السورة التي تليها تناسب واتساق في الموضوع، وأنه إلى آخر الأسرار واللطائف في علم التفسير، مما جعلوا ذلك لا يخرج عنه شيء البتة، وهذا قول قليلين من أهل العلم منهم البقاعي فيما صنف في نظم السور، والسيوطي وجماعة ممن قبلهم وبعدهم.

و القول الثالث: وهو القول الوسط وهو أعدل الأقوال، أنّ سور القرآن منها سور يظهر للمجتهد؛ يظهر للعالم بالتفسير، يظهر له موضوعها، ويظهر بين آياتها من التناسب، فهذا إذا ظهر لا حرج في إبدائه؛ لأنّ الله جل وعلا جعل القرآن محكما ? الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ? [هود:1]، فالقرآن كتاب لو بحثت فيه عن خلل لو بحثت فيه عن عدم اتساق لن تجد ? أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ? [النساء:82]، فإذا ظهرت المناسبة وظهر الموضوع فلا مانع أنْ يقال هذه السورة موضوعها كذا، وهذه الآية بينها وبين ما قبلها المناسبة الفلانية، بحسب ما يظهر للعالم بالتفسير وللمجتهد، دون أنْ يكون الهمّ تطلّب ذلك والتكلف فيه؛ لأن التكلف فيه قد يُفضي إلى القول في المسألة بلا علم والاجتهاد فيما لا طائل منه وقد يكون الاختلاف فيه كبيرا.

وهذا القول الثالث هو القول المعتدل الذي سلكه طائفة من العلماء في التفسير والعلماء بالاجتهاد، ومنهم ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وجماعة من المحققين في التفسير، ويظهر لك صوابه فيما إذا نظرت إلى الكتب المؤلفة في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور ونحو ذلك، فإنّ فيها أشياء متكلّفة، وفيها أشياء يتضح حسنها؛ بل إذا نظر ت إليها وتدبرت ما قيل من المناسبات والاتصال بموضوعات السور زادك يقينا بأنّ هذا القرآن إنما هو كلام الله جل وعلا، وإذا قرأت السورة أحسست بتأثير فيها ليس كتأثير من لم يعلم موضوع السورة ولا تناسب الآيات فيما يُذكر.

لهذا نقول إن هذه الأقوال الثلاثة المختار منها الثالث، وهو الذي يهم أن تعتني به من كلام أهل العلم؛ لأنّ فيه الفائدة المرجوّة إن شاء الله تعالى.

المصنفات في هذا الباب كثيرة، حتى زعم ابن العربي المالكي وهو من أهل الأندلس قد اتصل بالمشرق في فترة من عمره، زعم أنه كتب كتابا –زعم بمعنى قال؛ لأنّ زعم لا تعني التكذيب، زعم في اللغة بمعنى القول كما في الحديث الصحيح «أتانا رسولُك يزعم أنّك تزعم أنّ الله أرسلك»، قال العلماء بأن الزعم يستعمل بمعنى القول–، المقصود من هذا أن ابن العربي المالكي صاحب أحكام القرآن، وعارضة الأحوذي، وشرح الموطأ وكتب كثيرة معروفة، زعم أنه كتب كتابا في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور وعرضه على الناس في زمانه، قال: رأيت الناس بَطَلَة لم يقبلوا عليه، ولم يهتموا له مع عظيم علمه وشرف معلومه، قال: فلما رأيت ذلك الإعراض منهم أحرقته وجعلته بيني وبين الله جل وعلا.

وكتب أيضا الرازي في تفسيره بعض المناسبات.

وإلى أنْ وصل الأمر إلى الزركشي؛ فعرض في كتابه علوم القرآن المسمى ”بالبرهان“، كتب فيه أبوابا جيدة بالتناسب والمقاصد، وهي قصيرة لكنها فيها تأصيل لهذه المسألة.

ثم جمع ذلك مع تأمل البقاعي في كتابه الشبيه بالتفسير الذي أسماه” نظم الدرر في تناسب الآيات والسور “ وهو مطبوع في الهند، كتاب كبير في نحو اثني وعشرين مجلدا، والتزم فيه بأنْ يذكر مقصد السورة وأنْ يذكر التناسب بين كل آية والتي بعدها والتناسب بين آخر السورة والتي قبلها إلى آخر ما ذكر، مما جعله متكلفا في كثير من المواضع، حتى قال عن نفسه أنه ربما مكث شهرا في تأمل آية بعد آية ما المناسبة بينها، وعلماء عصره منهم من رد عليه لهذا التكلف الذي تكلفه في كتابه.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015