ومن العجائب والعجائب جمة أن الشعراوي - غفر الله له - يقول أيضا: "تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام – من الواضح أنه ينقل اتفاق العلماء على أنهما قبل الإسلام – ثم يقول مخالفا لهذا الاتفاق: والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام". تفسير الشعراوي - (ج 1 / ص 5100)

وأحب هنا أن أنقل للقارئ الكريم طرفا يسيرا ونزرا قليلا من أقوال الأئمة في هذه الآية، والمراد بالإفسادين الواقعين من بني إسرائيل ليكون القارئ على بينة ظاهرة وحجة قاطعة:

1 - ما روي عن الصحابة في تفسير الآية: نقل ابن جرير بسنده عن أبي صالح، وعن أبي مالك، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن عبد الله – يعني: ابن مسعود – "أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ) فكان أوّل الفسادين: قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، وكان يُدعى صحابين فبعث الجنود، وكان أساورته من أهل فارس، فهم أولو بأس شديد، فتحصنت بنو إسرائيل، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا، إنما خرج يستطعم، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم، فسمعهم يقولون: لو يعلم عدونا ما قُذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم، واشتد القيام على الجيش، فرجعوا، وذلك قول الله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا) ثم إن بني إسرائيل تجهَّزوا، فغزوا النبط، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم، فذلك قول الله (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) يقول: عددا". تفسير الطبري (ج17/ ص375).

وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: لتفسدن في الأرض مرتين قال: "الأولى قتل زكريا عليه الصلاة والسلام والأخرى قتل يحيى عليه السلام". الدر المنثور للسيوطي - (ج 5 / ص 239) فتح القدير للشوكاني (ج 3 / ص 302).

فهؤلاء ثلاثة من أعلم الصحابة: علي رابع الصحابة قدرا وفضلا، وابن مسعود أقرب الناس بالنبي هديا وسمتا ودلا، وابن عباس ترجمان القرآن الذي ملأ الدنيا علما، وهم جميعا قد فسّروا هذه الآية بما ترى، ونحن مأمورون أن نفهم القرآن بفهمهم، أفندع تفسيرهم لتفسير لم نسمع به إلا في القرن الخامس عشر الهجري؟!!

ثم إن هذه الآثار وإن كان فيها ضعف فإن ورودها عن جمع من الصحابة ينبئ أن لها أصلا، ثم إن الأخذ بها على ما فيها من ضعف أولى بالإتيان بقول لم يقل به أحد من السلف، ولا ورد عن أحد من أئمة التفسير، وهذا ظاهر لا يخالف فيه أحد.

2 - ما روي عن أئمة السلف في تفسير الآية: روى ابن جرير في تفسيره عن الربيع في قوله: (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) قال: "كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد. فغَبَرُوا زمانًا، ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بُخْتنصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بختنصر الفسادَ الثاني". تفسير الطبري - (ج 10 / ص 459)

وقال قتادة: "إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة، وركبوا المحارم".

وقال ابن إسحاق: "إفسادهم في المرة الأولى قتل شعياء بين الشجرة وارتكابهم المعاصي". تفسير البغوي - (ج 5 / ص 79)

ويقول البغوي: ({بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} قال قتادة: "يعني جالوت الخزري وجنوده وهو الذي قتله داود". وقال سعيد بن جبير: "يعني سنجاريب من أهل نينوى". وقال ابن إسحاق: "بختنصر البابلي وأصحابه". وهو الأظهر). تفسير البغوي (ج 5/ ص 79).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015