لا غرابة في القول بأن الله استخلف الإنسان في الأرض، وبأن الإنسان خليفة لله في الأرض. ولا يلزم من هذا أن (المخلوف قد غاب) كما أشار الأخ (مصطفى سعيد). وإنما يلزم منه أن الخليفة يتصرّف بتخويل من المستخلِف (بكسر اللام)، ويُتمّ مهمّته. ولا غرابة في القول بأن الإنسان يكمل ما بدأه الله في الأرض! فالله تعالى بدأ الخلق، وأبدع الطبيعة وفطر السماوات والأرض، وبهذا يتمّ خلق الطبيعة أو الأرض، يبقى بعد هذا الأعمال الحضارية ـ العمرانية التي هي المقصود من قوله تعالى (واستعمركم فيها) وقوله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة). وهذه الأعمال الحضارية ـ العمرانية هي وإن كانت مما هدى الله الإنسانَ إليها، ولكنها متروكة تحقيقها للإنسان. الحضارة هي (أعمال) الإنسان، وسيرى الله أعمالنا (وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). الله استخلف الإنسان بما يعمله في الأرض، واستعمره فيها، أي طلب منه إعمارَها، فالأرض قبل الإنسان كانت خالية من كلّ عمران وأعمال آدمية ومصنوعات مقصودة بالقصد الإنساني، لم يكن للأشياء في الأرض أسماء قبل الإنسان، والإنسان هو الذي سمّاها بأسمائها (وعلّم آدمَ الأسماءَ كلها). خلاصة الكلام: أن الله قد هيّأ الأرض لحياة الإنسان بدحوها وإخراج مياهها ومراعيها وإرساء جبالها، ثم خلق الإنسان ليعمل أعمالَه وليصنع حضارته وليُعمِر الأرض بعمرانه وقراه ومدنه وتجمعاته البشرية وإنجازاته. وهذا الاستخلاف (والاستعمار) ليس مخصوصا بالإنسان المؤمن، بل هو عامّ في الإنسانية. ومعنى هذا الاستخلاف، كما بيّنتُ، هو أن الإنسان مطالَب غريزيا وطبيعيا بأن يبدأ حيث انتهت الطبيعة، بأن يستغلّ الطبيعة (الأرض) ويعمرها ويجعل من القفار الموحشة مدنا عامرة وحواضر.

وأستغرب من الأخ (مصطفى سعيد) قوله بأن الإنسان لا يملك شيئا في الأرض، أليس كل شيء في الأرض مسخّرا بقدرة الله للإنسان، ألم يجعل الله الأرض ذلولا يمشي الإنسان في مناكبها؟ فالله تعالى مكّن الإنسانَ من الأرض وجعله ذا قدرة على استغلالها واستعمارها والتصرف فيها، وهو مطالَب بذلك، ولكنه طلب فطريّ غريزي كامن وليس مقتصرا على الوحي والرسالة السماوية، فالإنسان بطبيعته ينزع إلى استغلال الطبيعة والتصرف فيها كسيّد.

وأنا أرى أن قوله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) واضح تماما في أداء معنى استخلاف الله للإنسان في الأرض، ولكن مما شوّه هذا المعنى الواضح تفسير شائع يُفيد أن الإنسان مسبوق في الأرض بمخلوقات أخرى مكلَّفة أو شبه مكلَّفة مثل الجنّ، وأن الإنسان (خَلَف) لتلك الكائنات السابقة. وأنا الآنَ لا أعرف مصدر نشوء هذا التفسير الغريب، ولكنني متأكد من أنه تفسير ملتوٍ لا يتوافق مع السياق القرآني وصيغة الكلام في قصة آدم في سورة البقرة، التي تبدأ بقوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). فإذا كان المقصود هو أن الإنسان يخلف تلك المخلوقات العاقلة السابقة فلماذا لم يُشِر النصُّ إلى تلك المخلوقات؟ هل يمكن أن يكون البيان القرآني بهذا الغموض والباطنية؟ الذي أعلمه هو أن القرآن بلسان عربي مبين، ولكن المشكلة هي أننا في هذا العصر ليس لنا الملكة اللسانية التي كانت للعرب حينما خاطبهم القرآن في عصر النبوة وما تلاه. وفي هذا السياق يمكن أن أسأل: إذا كان الاستخلاف هو غير أن يكون الإنسان خليفة لله في الأرض؛ فما هو وجه استغراب الملائكة حينما علموا أن الإنسان هو الخليفة المقصود وهو المخلوق الذي قد يُفسِد وقد يسفك الدماء؟ إذا كان الإنسان مجرّد خلف لكائنات أكثر شرا وفسادا فما هو وجه استغراب الملائكة واستفسارهم؟ والملائكة أرادوا بذلك أنهم أنسب وأولى بأن يكونوا خليفة الله في الكون. ولكن المشيئة الإلهية قضت بأن يكون الإنسان العاقل الذي يسمّي الأشياء بأسمائها والذي يتعرّف على طبائع الأشياء المادية والذي ينزع بطبيعته إلى استغلال الطبيعة، هو الخليفة المستخلَف في الأرض. وليس المقصود أن ذلك الخليفة لا يسفك الدماء ولا يُفسِد في الأرض، ولكنه مع ذلك يُعمِر الأرض ويأتي من خلال أعماله و إنجازاته بما يمكن أن يكون إكمالا للطبيعة التي فطرها الله.

هذا هو جوهر المسألة كما أفهمه. ولستُ بالّذي يكتب فور ما يخطر له، وإنما قلّبتُ هذه الأفكار في رأسي منذ سنوات عدّة.

وقد أعود لهذا الموضوع، وأحبّ أن تستمرّ المناقشة.

وفّق الله جميع الإخوة لفهم القرآن العظيم.

ـ[محمد العبادي]ــــــــ[07 Feb 2009, 05:36 م]ـ

أحسنت أخي جمال فكلامك -خصوصا في المشاركة الأولى- كافٍ في هذه المسألة في نظري.

ـ[القارئ]ــــــــ[07 Feb 2009, 07:02 م]ـ

هل هناك كتاب جمع مقدمات سيد قطب عن السور في كتابه (في ظلال القرآن)

ـ[عبد الله المدني]ــــــــ[07 Feb 2009, 09:14 م]ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

أخي القارئ أنا شخصيا لم أعلم أن أحدا جمع هذه المقدمات، وقد أحسنتَ أخي إذ نبهت إلى هذا، فهي مقدمات تعريفية منهجية مفيدة. فلو تتكرم أنت أخي القارى فتقوم بهذا العمل المفيد، والله يجزيك الجزاء الأوفى.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015