وبعد: فما درجة أهمية تدبر القرآن في عقولنا؟ وما نسبة التدبر في واقعنا العملي فيما نقرأه في المسجد قبل الصلوات؟ وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على التدبر في حِلَق القرآن؟ أم أن الأهم الحفظ وكفى بلا تدبر ولا فهم؛ لأن التدبر يؤخر الحفظ؟.

ما مقدار التدبر في دروس العلوم الشرعية في المدارس، خاصة دروس التفسير؟ وهل يربي المعلم طلابه على التدبر، أم على حفظ معاني الكلمات فقط؟.

تُرى: ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق العلم في المساجد: هل هي في رأس القائمة، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً؟. ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ؟

لماذا يكون همُّ أحدنا آخر السورة، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ ومتى نقتنع أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر؟ أسئلة تبحث عن إجابة؛ فهل نجدها لديك؟

طلقت لمنزلي حزيناً فجاءني، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً؟ قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا: كلٌ يقول الحق عندي - ومتى يحتقوا يختصموا، ومتى اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، فقال عمر: لله أبوك! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها، وقد وقع ما خشي منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن؛ لكنه لا يجاوز تراقيهم.

عن ابن عمررضي الله عنه قال: كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. وفي هذا المعنى قال ابن مسعود: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به.

قال الحسن البصري: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله! - أسقطه كله ما يُرى القرآن له في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَسٍ! والله! ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت القراء مثل هذا؟ لا كثَّر الله في الناس أمثالهم.

وقال الحسن أيضاً: نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً. أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به.

كان شعبة بن الحجاج بن الورد يقول لأصحاب الحديث: يا قوم! إنكم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن. وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه.

عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثراً.

قال ابن القيم: ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر.

وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.

فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015