سابعاً: الحَثُّ على التأمُّل في معاني المعاني, ولوازمها, وربط الوحي- كتاباً وسُنَّةً- بعضَه ببعض, والغوص فيما وراء الألفاظ؛ للوقوف على مُرادات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, قال الغزالي (ت:505): (من زعم أنه لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مُخبرٌ عن حَدِّ نفسه, وهو مُصيبٌ في الإخبار عن نفسه, مُخطِئٌ في الحكم بردِّ كافَّة الخلق إلى درجته التي هي حَدُّه ومَحَطُّه, بل الأخبار والآثار تدل على أن في القرآن مُتَّسعاً لأرباب الفهم؛ ففيه رموزٌ وإشارات, ومعانٍ وعبارات, وتلويحٌ ودلالات, يختَصُّ بدَرْكها أهلُ الفهم من ذوي العنايات) (142) , وقال ابن القيم (ت:751): (والعلم بمُراد المتكلم يُعرَف تارةً من عموم لفظه, وتارةً من عموم عِلَّته, والحَوالَةُ على الأوَّل أوضح لأرباب الألفاظ, وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر) (143) , (وإن شِئتَ أدخلتَ هذا في باب معنى المعنى, أي المعاني التي وراء المعاني, ولا ضيرَ أن تكون وراءها بمسافةٍ أبعد, أو أن تكون من باب مُستَتبَعات التراكيب, وهو بابٌ جليلٌ غَيَّبَه غُبارُ العُجمَة) (144).

هذه أبرز مسائل هذا الأثر التفسيري الجليل, وبه يتم ما قصدتُ إليه من هذا البحث, وأختمه بمقالة الإمام الشافعي (ت:204) رحمه الله في الوصية بهذا العلم إذ يقول: (فحَقٌّ على طَلَبة العلم بلوغُ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه, والصبر على كل عارضٍ دون طلبه, وإخلاص النية لله في استدراكِ علمه: نَصَّاً واستنباطاً, والرَّغبةُ إلى الله في العون عليه, فإنه لا يُدرَكُ خيرٌ إلا بعونه) (145).

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * * *

(خاتمة البحث)

الحمد لله على إتْمام النعمة, واكتمال مباحث هذا البحث, وأسأله تعالى المزيد من فضله وتوفيقه, وبعد:

فهذا آخرُ هذا البحث وخاتِمَتُه, والتي أعرضُ فيها - بإذن الله - أبرزَ النتائج, وأهمَّ التوصيات, موضِّحاً فيها جُملَةً من القضايا التي تبيَّنَت وتأكَّدَت من خلال معايشة هذا البحث. وتتلخَّصُ هذه النتائج فيما يأتي:

أولاً: قامت موضوعات كتب التفسير على ثلاثة أنحاء: بيان الألفاظ والمعاني, وبيان معاني المعاني. وقد اهتم العلماء كثيراً ببيان وتحرير جانب ألفاظ القرآن ومعانيه, أما جانب معاني المعاني, ومستتبعات التراكيب, والاستنباطات القرآنية, فهو بابٌ جليل, لم يأخذ حظَّه من التحرير والتأصيل, مع كون هذا العلم من ألصق العلوم بعلم التفسير.

ثانياً: لَمَّا كان بيان السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم لمعاني القرآن في الذروة من الإصابة والبيان, كان استنباطهم أدَقَّ استنباطٍ وأصَحَّه وألطفه, وهذا التَّميُّز في تفاسير السلف واستنباطاتهم جزءٌ من مقتضى خيريَّتِهم وتفضيلهم الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: إن تميُّز السلف في تناول هذا النوع الدقيق من البيان, لَيُبْرِزُ حرصهم على توفيةِ الآيات حَقَّها من المعاني, واستيعاب كُلِّ حقٍّ أشار إليه لفظ الآية, ودَلَّ عليه معناها, وذاك هو علم الاستنباط.

رابعاً: أن الاستنباط علمٌ معتبَرٌ, وحُجَّةٌ في الشرع, دَلَّت على اعتباره وتقديمه جملةٌ من أدلة الكتاب والسنة.

خامساً: من حقِّ اللفظ والمعنى في التفسير استيعاب المعاني الصحيحة المتعلقة بهما من جهة نِدِّ المعنى ولوازمه وأشباهه ونظائره.

سادساً: المعاني المأخوذة بالاستنباط - بطبيعتها - أكثر وأغنى من معاني الألفاظ المباشرة, بل إن من أحكام الحوادث ما لا يُعرَفُ بالنصِّ وإنما بالاستنباط, وكم من سِرٍّ وحُكمٍ نَبَّهت عليهما الإشارة, ولم تبينهما العبارة.

سابعاً: الاستنباط قدرٌ زائدٌ على مجرد إدراك المعنى الظاهر؛ ومن ثَمَّ عزَّ وجوده, وصَعُبَ إدراكه, ولا يؤتاهُ كلُّ أحدٍ, بل هو من مواهب الله تعالى التي ينعِمُ بِها على من شاء من عباده.

ثامناً: موضوع علم الاستنباط: نِدُّ المعنى الظاهر ونظيره؛ الذي يوافقه في القصد أو يقاربه, ولوازم المعنى, وعلله؛ ليُلحَق به أشباهه ونظائره, وتتبين معه نسبةُ الألفاظ بعضها إلى بعض, ثُمَّ مقاصد المتكلم ومراده, بحيث لا يُزادُ عليها ولا يُنقَصُ منها.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015