:: يُعَبَّرُ عن المعاني المستنبطة في كلام العلماء بألفاظ عديدة, من نحو: باطن الآية, ما وراء اللفظ, إشارات الآيات, لطائفُ ومُلح ونُكَتُ الآيات, حقائق المعاني, معاني المعاني, روح المعاني, رموز المعاني, مستَتْبَعات التراكيب, دقائق التفسير, أسرار التأويل, تأملات قرآنية, ظِلالُ الآيات, هداية الآيات, فوائد الآيات .. وغيرها, وبعضها أعمُّ من بعض في الاستعمال.

:: المنهج المُتَّبع لبلوغ درجة الاستنباط المحمودة شرعاً:

إن هذا العلم عزيز, وليس في مقدور عامَّة الناس ولا أكثر علمائهم الخوض فيه, وإنما هو شأن القلَّة التي تمكنت منه بعد جَهدٍ واجتهاد وفتحٍ وتوفيق من الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء 83) , قال شمس الدين الأصفهاني (ت:749): (كُلُّ من كان حَظُّه في العلوم أوفر, كان نصيبه من علم القرآن أكثر) (84) , وقال ابن القيم (ت:751) في معنى {يَسْتَنبِطُونَهُ}: (أي يستخرجون حقيقته وتدبيره بفطنتهم, وذكائهم, وإيمانهم, ومعرفتهم بمواطن الأمن والخوف) (85) , وقال: (ولو رُزِقَ العبدُ تضَلُّعاً من كتاب الله وسنة رسوله, وفهماً تامَّاً في النصوص ولوازمها, لاستغنى بذلك عن كلِّ كلامٍ سواه, ولاستنبط جميع العلوم الصحيحة منه) (86).

ومن رامَ بلوغ شيءٍ من مدارج هذا العلم فلْيُحكِم أولاً الطريق إليه, وهو: العلم بحدود ألفاظ الآيات, وفهم وجوه معانيها, وتصرُّفاتِ أساليبها, ثُمَّ يستظهر بعد ذلك - بآلةٍ راسخة في علوم اللسان والبيان, وأصول الشرع ومقاصده, وبتحقُّقٍ تامٍّ فيما هو بصدد استنباط مسائِله من العلوم – ما تقع عليه بصيرته من دقائق المعاني, ومحاسن الإشارات؛ الأقرب منها فالأقرب إلى معنى الآية, ثمَّ الأقوى منها فالأقوى في الدلالة على مقصده ومُراده, قال ابن جرير (ت:310): (أولى العبارات أن يُعَبَّر بها عن معاني القرآن أقربها إلى فهم سامعيه) (87) , وقال الراغب الأصفهاني (ت: بعد500): (إن المائل إلى دقيق المحاجَّة هو العاجز عن إقامة الحُجَّة بالجَليِّ من الكلام؛ فإنَّ من استطاع أن يُفهِمَ بالأوضح الذي يفهمه الكثيرون, لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون, وقد أخرج الله تعالى مخاطباته في أجلى صورة تشتمل على أدقِّ دقيق؛ لتفهم العامَّة من جَلِيِّها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة, ويفهم الخواص من أسرارها ودقائقها) (88) , وقال ابن القيم (ت:751): (وإذا دعاك اللفظ إلى المعنى من مكان قريب, فلا تُجِب من دعاك إليه من مكان بعيد) (89).

وإنَّ بذلَ غاية الوُسعِ والاجتهاد في تفحُّصِ معاني الآيات, وتقليب وجوهها, والغوص في مدلولات ألفاظها ومقاصدها وعللها = لهو أعظم شرطٍ لنيلِ المرادِ في هذا البابِ, ولتحقيق ذلك عانى العلماء ما عانوه, ولحِقَهم فيه من المشقَّة والجَهدِ ما لَحِقَهم, وهذه صورة من ذلك يرويها محمد بن سعيد الفاريابي, عن الإمام المُزَنيُّ (ت:264) أو الرَّبيع (ت:270) قال: (كنَّا يوماً عند الشافعي بين الظهر والعصر عند الصحن في الصُّفَّة, والشافعي قد استند – إما قال: إلى اصطوانة, وإما قال إلى غيرها -, إذ جاء شيخ عليه جبة صوف, وعمامة صوف, وإزار صوف, وفي يده عُكَّاز, قال: فقام الشافعي, وسوى عليه ثيابه, واستوى جالساً, قال: وسَلَّمَ الشيخُ وجلس, وأخذ الشافعيُ ينظر إلى الشيخ هيبةً له, إذ قال له الشيخ: أسأل؟ فقال: سل. قال: أيشٍ الحُجَّةُ في دين الله؟ فقال الشافعي: كتاب الله. قال: وماذا؟ قال: وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال: من أين قلت: اتفاق الأمة من كتاب الله؟ قال: فتدبر الشافعي ساعةً, فقال للشافعي: يا شيخ, قد أَجَّلْتُك ثلاثةَ أيام ولياليها, فإن جئت بالحُجَّةِ من كتاب الله في الاتفاق وإلا تُبْ إلى الله عز وجل. قال: فتغَيَّرَ لون الشافعي, ثم إنه ذهب فلم يخرج ثلاثةَ أيامٍ ولياليهن, قال: فخرج إلينا اليوم الثالث في ذلك الوقت - يعني بين الظهر والعصر -, وقد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه, وهو مِسْقَام, فجلس, قال: فلم يكن بأسرعَ أن جاء الشيخُ فسلم وجلس, فقال: حاجتي. فقال الشافعي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحيم, قال الله عز وجل: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015