وعمدت من تفاسير السلف إلى تفاسير الصحابة على الخصوص؛ وإن الناظر ليعجب من فقه الصحابة في تفاسيرهم, ودقة استنباطهم رضي الله عنهم, فقد بلغوا في هذا الباب درجة لا تكاد تجد مثلها لمن بعدهم, وليس هذا بمستغرب من مثلهم؛ فباب الاستنباط مبنيٌ على زكاء نفس, وقوة نظر, وجودة قريحة, وصحة فهم, وحسن بيان, وقد جاؤوا من ذلك باللُّبَاب. ومن خلال دراسة بعض أقوالهم في التفسير ظهر لعمر بن الخطاب, وعلي بن أبي طالب, وعبد الله بن عباس رضي الله عنه تميزاً ظاهراً عن غيرهم من الصحابة في هذا الباب؛ ولعل ذلك سببَ عَدِّهم من أعلم الصحابة بالتفسير (2) , ولا يبعد ذلك؛ فإذا تساوى كثيرٌ من الصحابة في العلم بمعاني ألفاظ القرآن وأساليبه, تقدم هؤلاء الثلاثة على غيرهم في التقاط الدرر من معاني المعاني, في بديهة تعجب منها الصحابة في مواقف كثيرة.

وإن تميُّز السلف في تناول هذا النوع الدقيق من البيان لَيُبْرِزُ حرصهم على توفيةِ الآيات حَقَّها من المعاني, واستيعاب كُلِّ حقٍّ أشار إليه لفظ الآية, ودَلَّ عليه معناها, وذاك هو علم الاستنباط.

وتتلخَّصُ الغاية المرجوة من دراسة هذا الموضوع في تجلية هذا العلم من علوم القرآن الكريم, وإعلاء معالم يهتدي بها شُداة علم التفسير وقاصدي فهمه, وقد اجتهدت في إبراز ذلك من خلال مقدمات وتمهيدات في المبحث الأول, ثم بعرض نموذج تطبيقي من استنباطات الصحابة في المبحث الثاني, وبالله تعالى التوفيق, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المبحث الأول:

الاستنباطُ تعريفٌ وبيان

أولاً: تعريف الاستنباط:

النون والباء والطاء في لغة العرب كلمةٌ تدلُّ على استخراج الشيء والانتهاء إليه (3) , واستنبط الفقيه: إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه (4) , قال الزجاج (ت:311): (معنى يستنبطونه في اللغة: يستخرجونه) (5) , وقال ابن جرير (ت:310): (وكلُّ من أخرج شيئاً كان مُستَرَّاً عن إبصار العيون, أو عن معارف القلوب = فهو مستنبطٌ له, يقالُ: استنبطتُ الرَّكِيَّةَ (6): إذا استخرجتُ ماءَها, والنَّبَطُ: الماء المستنبطُ من الأرض, ومنه قول الشاعر:

قريبٌ ثَرَاهُ, ما يَنَالُ عَدُوُّه == لَه نَبَطَاً, آبِي الهوانِ, قَطُوبُ) (7).

ويستفادُ من هذه المعاني اللغوية ما يأتي:

أولاً: الاستنباط هو الاستخراج باتفاق أهل اللغة, وهو المعنى المطابق للَّفظ.

ثانياً: أن في الاستنباط نوعُ اجتهادٍ ومعاناةٍ, دلَّ عليه صيغة اللفظ المفتتحة بحروف الطلب (ا, س, ت) , وعبارة صاحب «العين»: (والانتهاء إليه)؛ المفيدة لبعده عن طالبه, ثمَّ هذا الاجتهاد والعناء في نيل المستَنبَط واضحٌ في ما يبذله مستنبطُ الماء من البئر, قال ابن القيم (ت:751): (الاستنباط هو: استخراج الشيء الثابت الخفي الذي لا يعثر عليه كل أحد) (8).

ثالثاً: أن الاستنباط أقرب إلى باطن الكلام منه إلى ظاهره, وأقرب إلى المعاني منه إلى الألفاظ, كما قال الأزهري (ت:370): (استنبط الفقيه: إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه) , وهو معنى الاستتار والتواري الذي ذكره ابن جرير (ت:310) , وقال البغوي (ت:516): (من العِلم ما يُدرَكُ بالتلاوة والرواية, وهو: النصُّ, ومنه ما يُدرَكُ بالاستنباط, وهو: القياس على المعاني المودعةِ في النصوص) (9) والقياس نوعٌ من الاستنباط, وقال ابن القيم (ت:751): (الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفي على غير مستنبطه) (10).

أمَّا الاستنباط في استعمال المفسرين فهو: استخراج ما وراء ظواهر معاني الألفاظ من الآيات القرآنية.

والمُرادُ بظواهر معاني الألفاظ: ما يتوقف فهم القرآن عليها من المعاني المباشرة.

ثانياً: مقدمات وقواعد في علم الاستنباط:

:: مكانةُ علم الاستنباط من علم التفسير:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015