وتلاحظ أنه حين تثور في المجتمع مسألة شرعية جهادية أو قضائية أو حسبوية أو دعوية أو غيرها فإن كثيراً من الكتّاب يتصدر للفتيا فيها وهو لم يبحثها أصلاً، ويذيع فتواه وينشرها، وينسب رأيه للشريعة بلا تردد، والاجتهاد في الشريعة ليس محصوراً على عرق أو نسب، وإنما هو مقيد بشروط علمية كغيره من التخصصات، فكنت أتعجب من تسابق هؤلاء الكتّاب على الفتيا دون علم .. فلاهم درسوا النصوص، ولا سألوا من يحسن الاستنباط منها، وكنت أظن ذلك شيئاً جديداً حتى قرأت قوله تعالى:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)
وكنت أسمع هؤلاء المتثيقفين إذا أرادوا أن يحقروا أحداً سموه بـ"الواعظ" تقليلاً لشأنه، وهذا التحقير بهذا الوصف فرع عن كونهم يرون المواعظ أحط مراتب الخطاب وأنقصها قيمة، فتسرب إلى ذهني هذا التحقير للمواعظ بشكل غير مباشر، وصرت مثلهم أعتقد أن المواعظ لاتليق بالخطاب الراقي، حتى رأيت الله تعالى وصف كتبه السماوية بأنها "موعظة" فعلمت أنه من المحال أن يختار الله لأعظم كتبه أحط الأوصاف!
فسمى القرآن موعظة فقال (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)
وسمى التوراة موعظة فقال (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا)
وسمى الإنجيل موعظة فقال (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)
ولطالما كنت أتوهم أن الاحتجاج على "صحة المبدأ بقوة أتباعه" إنما هي طريقة جديدة ساذجة في التفكير، وأن الناس كانت تدرك أن الحق لاصلة له بالقوة، حتى قرأت قوله تعالى:
(فأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟)
ولطالما كنت أتوهم –أيضاً- أن الاحتجاج على "بطلان المبدأ بضعف أتباعه" إنما هي طريقة جديدة ساذجة في التفكير .. حتى قرأت قوله تعالى:
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)
وكنت ألاحظ بعض المتثيقفين يستكبر عن الإنصات للخطاب الشرعي، وإذا عرض له شئ من ذلك، تظاهر باستكبار أنه لايفهم ماذا يقول هذا؟ وربما أخفى كبرياءه في سؤال استعلائي يقول فيه: ماذا يقول هذا الشيخ؟! وكنت أظن أن مثل هذه الأساليب الاستعلائية أساليب جديدة .. حتى قرأت قوله تعالى
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا؟)
تلاحظ أن كثيراً من المتثيقفين حين تنقل لهم في أصل شرعي كبير تواطؤ أقوال أئمة الإسلام الكبار كفقهاء أصحاب رسول الله، ومفتي التابعين، وأئمة الأمصار المتبوعين، يقول لك: هؤلاء كلهم بشر، حتى لو تتابعوا على أصل معين فإنه لايلزمني، قلت له: هذا يلزم عليه أنهم كلهم ضلوا في أصل كبير من أصول الاسلام، فيقول لك: هذه لوازم لست معنياً بالتفكير فيها، ويبقى أنهم "بشر" .. ويتطور الأمر سوءاً عند بعضهم فلايقبل مروياتهم ولافقههم بحجة أنهم "بشر" .. فكنت ألاحظ كثرة تردادهم لبشرية السلف لبرهنة عدم حجية ماتتابعوا عليه نقلاً أو فقهاً .. وكنت أتوهم أن التذرع بالبشرية لرفض الانقياد للشريعة شأن جديد .. حتى قرأت قوله تعالى:
(فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)
في منتديات وصوالين المتثيقفين تتفاجأ بكثير من العلمانيين الجذريين الذين لايعولون على حاكمية الشريعة في دقيق ولا جليل، وإذا كتبوا في منتديات الانترنت بالاسم المستعار رأيتهم علمانيين جلدين، لكنهم إذا كتبوا للناس بأسمائهم الصريحة في الصحافة أكثروا من ذكر "مع مراعاة ضوابط الشريعة"، والاستفادة من الفكر الغربي بـ"ما لايعارض الشريعة"، ونحو هذه العبارات.
ولطالما وقفت متأملاً هذا (النفاق الفكري) .. فكنت أتعجب منهم كثيراً كيف يبيتون مالا يرضاه الله من العلمنة ورفض حاكمية الشريعة، فإذا كتبوا للناس أظهروا احترام الشريعة ومراعاتها؟! .. وكنت أظن هذه الحالة شأناً جديداً حتى قرأت قوله تعالى:
¥