ـ[مرهف]ــــــــ[18 Nov 2008, 05:43 م]ـ
من الدراسات النفسية في القرآن الكريم
أثر انحراف العقيدة على الأمن النفسي والسلوك الاجتماعي
د. مرهف عبد الجبار سقا
مدخل:
لقد اتسمت دراسة علماء النفس للشخصية بالنقص وعدم وجود نظرة كلية لتركيبته الإنسانية الفطرية؛ لأنهم اقتصروا في تحليلهم ودراستهم للشخصية على جوانبها البيئية والوراثية والثقافية والاجتماعية والفردية، وأهملوا الجانب الروحي والعقدي في تكوين الشخصية وأثره في سويتها في تحقيق التوازن والأمن النفسي في تلك الشخصية، حيث نظروا إلى الشخصية باعتبارها الأبنية والعمليات النفسية الثابتة التي تنظم خبرات الفرد، وتشكل أفعاله واستجاباته للبيئة التي يعيش فيها؛ والتي تميزه عن غيره من الناس، ويقسمون الشخصية على ذلك إلى: شخصية سوية وشخصية غير سوية، منكرين الأثر العقدي في بناء النفس الإنسانية وتكوين الشخصية السليمة، فكانت نتائج أبحاثهم عن الإنسان مبتسرة ومتناقضة وتفتقد التكامل العلمي.
لكننا نجد القرآن الكريم يهتم ببيان مكونات الشخصية وسويتها وأمنها من جميع الجوانب ويركز بالأخص على الدور العقدي في بلورة الشخصية وأمنها وسلوكها، وسنجد مثالاً لذلك من خلال تناول هذه الآيات من سورة النحل، وهي قوله تعالى:
) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) (.
نحن أمام آيات تصف حقيقة تاريخية، ونمطاً سلوكياً ذا مرجعية عقدية، تصور لنا الحالات النفسية التي يعيشها هؤلاء المنكرون المستكبرون الجاحدون؛ ليكونوا أنموذجاً حياً لتوصيف الحالة النفسية لكل مخالف للفطرة من حيث اتصافها أنها غير صحيحة نفسياً، وغير سليمة عقلياً، وبالتالي حصل من صاحبها هذا السلوك المتعجرف المتناقض.
فأول سلوك عجيب متناقض سلكه أولئك القوم: ذكره تعالى في قوله:) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ (، إذ جعلوا في أموالهم حقاً للأصنام التي لم ترزقهم شيئاً، ولا تضرهم ولا تنفعهم، كما قال تعالى:) وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا .. ([الأنعام:136].
عن قتادة قال: (وهم مشركو العرب، جعلوا لأوثانهم نصيباً مما رزقناهم، وجزءاً من أموالهم يجعلونه لأوثانهم) ([1])، والتناقض في سلوكهم هذا من جهتين:
إحداهما: أنهم يجعلون نصيباً من الحرث والأموال لجماد لا حول له ولا قوة؛ خوفاً من ضره وتقرباً من نفعه.
والثاني: أنهم يعطونهم هذا النصيب من رزق الله تعالى المنعم عليهم كل نعمة ظاهرة وباطنة، فبدل أن يشكروه؛ أشركوا به وشكروا من لا يضر ولا ينفع.
والسلوك الثاني الذي سلكوه هو التبرير لما يفعلونه من خلال اختلاق الحجج والمسوغات لإشراكهم بالله، المشار إليه في قوله تعالى:) تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (، فالقسم بالتاء "يختص بما يكون المقسم عليه أمراً عجيباً ومستغرباً، .. فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يُسألون سؤالاً عجيباً بمقدار غرابة الجرم المسؤل عنه" ([2])، وهو أنكم) تَفْتَرُونَ (أي تختلقون الحجج والتبريرات لما تفعلون وتقولون بأن هذه الجمادات آلهة، وأنكم ما تعبدونها إلا لتقربكم من الله زلفاً، "والإتيان بفعل الكون وبالمضارع للدّلالة على أن الافتراء كان من شأنهم، وكان متجدداً ومستمراً منهم، فهو أبلغ من أن يقال: عمّا تفترون، وعمّا افتريتم" ([3]).
والتبرير سلوك يتبعه ضعيف الشخصية، ضعيف الحجة، مضطرب التفكير، غير متصف بالصحة النفسية.
¥