وبناء على هذا فإن الاستدلال على تحريف الإنجيل من خلال ما جاء فيه لا يفيد العلم (اليقين) وإنما يفيد الظن لأن تيسير الذكر لقوم لا يعلمون يختلف عن تيسيره لقوم يعلمون، وبالتالي فإن النتيجة هي اختلاف الفهم.

قضية التوراة والإنجيل يحكم فيها الكتاب والحكمة، فالكتاب تبيان لكل شيء، والحكمة تفصل فيما نحن فيه مختلفون.

قال تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

الكتب السماوية رحمة للناس، والمثل الأعلى للرحمة في الأرض هي رحمة الأبوين، هب أن أبا جاء أبناءه بكتاب فيه إرشادات ليتعلموا منها كيفية تشغيل وصيانة آلة ميكانيكية أو إلكترونية، ثم جاء أحد الأبناء في غياب إخوته وأراد أن يتلف الكتاب أو يقطع بعض أوراقه أو يشطب فقرات منه أو يلطخ صفحاته بحبر ليطمس مضمونه أو يحرفه، هل يتركه أبوه يفعل ذلك!!

هل يعد هذا تصرفا حكيما من الأب!! يرى أحد أبناءه يعبث بالكتاب ليضل إخوته ولا يمنعه!! وهل يلوم الأب أبناءه على فشلهم في تشغيل الآلة وهو يعلم أن سبب فشلهم هو أخوهم الذي شاهده يحرف الكتاب ولم يمنعه!!

لا شك أن القول بتحريف التوراة والإنجيل يعد انتقاصا لا يليق بالله الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء، إنه قول يتعارض مع الحكمة، فكأننا نعتبر الله تعالى كالأب الذي شاهد أحد أبناءه يحرف ويزيف الكتاب ليضل إخوته ولم يمنعه ورغم ذلك عاقب أبناءه على فشلهم في تطبيق إرشادات الكتاب!!

إن قلنا إن رحمة الأب بأبناءه لا تضرب مثلا لرحمة الله بالناس فهذا تكذيب لقول الله (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، إذ أن رحمة الأبوين هي المثل الأعلى للرحمة، أما إذا اعتبرنا رحمة الأب هي المثل الأعلى الذي يصح أن يضرب مثلا لرحمة الله فإن الله قال بعدها: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فكما أن التصرف الصائب والحكيم في المثال السابق الذي ضربته هو حرص الأب على هداية أبناءه وعدم السماح لأحد أن يمس الكتاب بسوء قصد تحريفه أو طمس مضمونه أوإتلافه أو .... كذلك الله القيوم حكيم يحفظ كتبه من التحريف وما يفتح للناس من رحمة فلا ممسك لها.

القرآن الكريم وصف اليهود والنصارى المعاصرين للتنزيل الحكيم بأهل الكتاب، والكتاب المقصود هو التوراة إن كان يتكلم عن اليهود، وهو الإنجيل إن كان يتكلم عن النصارى، فهل يصح أن يثبت لليهود أهليتهم للتوراة ثم نأتي نحن لنقول إنها توراة محرفة، لو كانت محرفة لوصفهم بأهل الكتاب المحرف لا بأهل الكتاب، ولو كان أسلافهم هم أهل الكتاب الغير محرف لخاطب هؤلاء بعبارة: يا بني أهل الكتاب لا بيا أهل الكتاب، وإذا قال الله: وأورثنا بني إسرائيل الكتاب، فبني إسرائيل على الإطلاق: الأولون والآخرون، فلا يصح أن ندعي أن الأولين من بني إسرائيل ورثوا توراة سليمة من التحريف أما هؤلاء فورثوا توراة محرفة.

قال تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ.

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.

هم صنفان من المؤمنين: صنف إيمانهم بالغيب، والصنف الآخر إيمانهم إيمان شهادة، فالتصديق بالشيء يتم بواسطتين:

1) إما خبرا بالسمع (غيب)، 2) وإما رؤية بالبصر (شهادة).

بما أن الله عطف في الآية الرابعة من سورة البقرة بقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ... ) هذا لا يعني أن المعطوف عليه: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) لا يؤمنون بما أنزل على النبي ولا بما أنزل من قبله بل تعني أن إيمان هؤلاء إيمان غيب بما أنزل على النبي وبما أنزل من قبله، والمعطوف صنف آخر يؤمن إيمان شهادة بما أنزل على النبي وبما أنزل من قبله، فقد حذف من المعطوف عبارة (بالشهادة) لوجود ما يقابلها في المعطوف عليه (بِالْغَيْبِ)، ولدلالة سياق الآية عليه في وصفهم بالموقنين (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)، فالشاهد الذي رأى أحق أن تثبت له صفة اليقين من السامع الذي صدق الخبر الذي غاب عن بصره.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015