ومن أجل الاستعارة ودلالتها في هذا السياق فقد آثر النظم القرآني المغايرة بين قوله ?مريضا ? وقوله ? أو على سفر ? ولو تمت المراعاة اللفظية بينهما لقيل: (أو مسافراً)، وذلك أن قوله ? أو على سفر ? في محل نصب معطوف على خبر كان، والتقدير: أو كان مسافراً. (8)
كما تضمن قوله ? فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ? حذفاً لطيفاً، بل هو من روائع الحذف وبدائعه، وبيان ذلك: أن بين الشرط وجوابه محذوفاً لا يستقيم الكلام إلاَّ به، والتقدير: (فأفطر فعدة من أيام أخر)، فحُذف قوله "فأفطر"؛ وذلك ثقة بظهوره، وذلك أن المعنى لا يستقيم إلا بهذا التقدير، ونظير هذا الحذف في كتاب الله قوله – تعالى - ? فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ? (9) أي فضرب البحر فانفلق، ومعلوم أن البحر لم ينفلق إلاَّ بعد ضربه، ولذا حُذف لظهوره، وكذلك الشأن في آية الصيام، فإن الصائم لن يقضي من شهر رمضان إلاَّ إذا أفطر منه، وتتجلى بلاغة الحذف أن فيه إيجازاً، وقد أدى هذا الإيجاز إلى تلاحم الكلام وترابطه، كما أن فيه صيانة له من الترهل والإطالة فيما لا طائل له، كيف وقد اتضح المراد، وتبين المقصود.
كما أن ثمة حذفاً آخر في الآية، وذلك أن قوله ? فعدة ? مرفوعة بالابتداء، فخبرها محذوف، والتقدير: فعليه عدة (10)، وفي هذا التقدير إشارة إلى وجوب العدة، بدلالة حرف الجر "على" على الاستعلاء، وفي هذا الحذف تعجيل بالحكم الشرعي المنوط بمن أفطر في نهار رمضان لمرض أو سفر، ومن هنا تتجلى بلاغة الحذف في هذا السياق، ومنه يتجلى ارتباطه بآيات الصيام، فقد تمَّ توظيفها توظيفاً بليغاً في بيان هذه الأحكام وإظهارها.
وفي قوله ?طعام مسكين ? مجاز مرسل، باعتبار ما سيكون، فليس هو طعاماً للمسكين قبل تملُّكه، وحصوله عليه، ولكن أُضيف الطعام إليه باعتبار ما سيؤول إليه، تتجلى بلاغة المجاز في آيات الصيام، وفي هذا المقام أن فيه إشارة إلى أن هذه الفدية – وهي الإطعام – أمر محقق، واجبة على من أفطر، فكأن هذا الطعام قد خرج من يده، ومِنْ مُلْكِه، وصار في مُلْك المسكين؛ لأنه حق من حقوقه.
وثمة قراءة أخرى لكلمة "مسكين" فقد قُرئت بالجمع "مساكين" (11)، وفي هذه القراءة إشارة لطيفة متعلقة بالفدية، فقد جاءت مجموعة مقابلة للفظة "يطيقونه" فقابل الجمع بالجمع، وبيان ذلك: أن الذين يطيقونه جماعة، وكل واحد منهم يلزمه مسكين، فجاء الجمع إشارة إلى هذا المعنى (12)،وهو معنى حسن، وإشارة لطيفة تضمنتها لفظة " مساكين" حين جاءت جمعاً.
وأما من قرأ "مسكين" بالإفراد ففيها – أيضاً – معنى لطيف آخر، وهو الإشارة إلى أن المعنى: على كل واحد طعام مسكين واحد لكل يوم أفطره (13)، فالمسكين يقابل اليوم الذي تمَّ الفطر فيه، وقد أشار ابن عطية إلى هذا الإفراد و بلاغته، يقول: ((فإن قلت: كيف أفردوا المساكين، والمعنى على الكثرة؛ لأن الذين يطيقونه جمع، وكل واحد منهم يلزمه مسكين، فكان الوجه أن يُجمعوا، كما جُمع المطيقون؟ فالجواب: إن الإفراد حسن؛ لأنه يُفهم بالمعنى أن لكل واحد مسكيناً، ونظير هذا قوله – تعالى - ? والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ? (14)، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم، بل لكل واحد ثمانون)). (15)
وقوله ? فمن تطوع خيرا فهو خير له ? من إيجاز قِصَر، فقد حوت هذه الألفاظ القليلة كثيراً من المعاني التي يتعذر حصرها، والوقوف عليها، كما أن فيها كثيراً من الأحكام المتعلقة بالصيام، والإفطار، والفدية، وقد تمَّ التعبير عنها واحتواؤها بهذه الألفاظ القليلة، وقد أشار الإمام الطبري (ت 310هـ) في تفسيره إلى هذا الإيجاز، يقول – بعد أن ذكر كثيراً من الأقوال والأحكام التي تضمنتها -: ((والصواب من القول: أن الله – تعالى ذكره – عمَّ بقوله ? فمن تطوع خيرا ? فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض، فجمعُ الصوم مع الفدية من تطوع الخير، وزيادة مسكين على جزاء الفدية من تطوع الخير، وزيادة المسكين على قدر قوت يومه من تطوع الخير ... لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل)). (16)
¥