لذلك كله نرى المحققين الأثبات لا يعبؤون بكثرة الأعمال، ولا يطنبون في تعدادها ... لأن تحقيق الكتاب، قد يستغرق من المحقق من الوقت أضعاف ما قد يستغرقه تأليف مثله، وذلك حسب طبيعة خطه، وتسلسل أوراقه، ولأن المحقق قد يوقف عمله في مرحلةٍ ما، لينتظر وصول مخطوطة علم بها، وانتظار المخطوطات، والسعي لها معاناة لا يدركها إلا من عاناها، ووقع في شباكها ...

وربما كان كثيرون قد انصرفوا عن التحقيق بسبب ٍ من صعوبة الوصول، أو الحصول على المخطوط الذي به يرغبون، وقد أخبرنا بعض المحققين في مقدماتهم عن جوانب من تلك المعاناة، وإن صعوبة قراءة كلمة على وجهها، قد توقفك عن متابعة العمل أسبوعا ً، أو أكثر، وتؤرق عليك ليلك وأنت بها تفكّر ... وتستنفر حدسك وحواسك لاستجلاء قراءتها، زد على ذلك أن بعض المعاجم قد لا تسعفك في مواضع، والمراجع قد تخذلك في مواضع ... ثم بعد ذلك كله أو قبله كله أنت لا تعمل لنفسك في التحقيق، إنما تعمل لغيرك .. فأنت تحرر نصا ً ليس لك، وتبذل العمر، ومعه العيون والراحة، في إحياء أعمال ستحيا باسم مؤلفيها الذين رحلوا من مئات السنين، لذلك كان التحقيق واستغراق العمر فيه، يمثل ضربا ً من الإيثار ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه المغيرون على أعمال غيرهم، وأوضحت هذه الظاهرة من صوارف بعض المجدّين عن العمل في التحقيق، ونشير هنا فقط إلى (رسالة الغفران) للمعرّي، وقد سلخت فيه محققته بنت الشاطئ سنواتٍ من عمرها، وسنوات أخر في الاستدراكات والتصحيحات، ثم رأت بعد أن نشرته وشهرته غير ما واحدٍ يتنطع بأن حققه ونشره وهو يدعي أن النص للمعري وليس لها، وله فيه من الحق مثل مالها، وهو إنما سرق جهدها ولياليها وعلمها ...

وإذا كان من تحصيل الحاصل أن المحقق يجب أن يكون متضلعا من فنه علميا ً، فإنه أيضا ً يجب أن يكون متقنا ً لآليات هذا الفن وتقنياته، لذلك رأينا المستشرق برجستراسر (توفي 1933م)، ومن بعده المرحوم عبد السلام محمد هارون (توفي 1988م)، يؤلفان في فن تحقيق النصوص، إضافة إلى ما نثاه في تضاعيف كتاباته العلامة المرحوم محمود محمد شاكر (توفي 1977م)، في أصول هذا الفن ومستلزماته، ولعل أهمّ هذه الأمور هو المحقق نفسه ومقدار ما يتمتع به من الفهم، والحذق في قراءة النصوص وفهمها وتحليلها.

وقبل أن أنتقل إلى الكلام على الأعمال المحققة لأستاذنا المبارك لا بدّ أن أذكر أن التحقيق قد ينتقل إلى مجال الطبع الشخصي، ويصبح صفة راسخة ً ملازمة، فترى المحقق محققا تجاه كل فكرة وكل خبر، وأنا أزعم أن الدكتور المبارك قد أصبح على هذا النحو، فقد جلس يوما ً أمام الشاشة الصغيرة يراقب ندوة وكان المتحدث يقول: (إن المؤرخين ذكروا أنه اجتمع على حرب المسلمين مشركو قريش، ومَنْ رافقهم من الأحابيش، وهم من الحبشة وغيرها من العبيد والزنوج .. وكان بعضهم قد جاء من القارّة).

وكان هذا الكلام الذي سمعه الدكتور بداية رحلة تنقيب وبحث ومراجعة للسيرة النبوية، ومعاجم اللغة، وكتب الأنساب وكانت النتيجة أن بيّن بالدليل الناصع أن الأحابيش إنما هي نسبة إلى جبل (حُبْشيّ)، وهو جبل بأسفل مكّة بنعمان الأراك، يقال به سُمّيت أحابيش قريش، وذلك أنّ بني المصطلق، وبني الهون بن خزيمة، اجتمعوا عنده، وحالفوا قريشا ً وتحالفوا بالله: (إنّا ليد ٌواحدة ٌ على غيرنا ما سجا ليل ٌ ووضح نهار، وما رسا حُبْشيّ في مكانه)، فسموا أحابيش قريش باسم الجبل، وبينه وبين مكة ستة أميال)، وخلص الدكتور المبارك إلى أنّ الأحابيش هم بنو الهون، وبنو الحارث من كنانة وبنو المصطلق من خزاعة، تحبّشوا أي تجمعوا، وتحالفوا عند جبل حبشيّ، فسُموا الأحابيش).

أما (القارّة) وقد قرأها صاحب الندوة بتشديد الراء، فصوابُها (القارَة)، بتخفيف الراء وفتحها، وهي قبيلة مشهورة بالرمي، وهم عَضَل والدّيش ابنا الهون بن خزيمة بن مدركة، سُمّوا (قارة) لاجتماعهم، والتفافهم، لمّا أراد ابن الشّداخ أن يفرقهم في بني كنانة وقريش، قال شاعرهم:

دَعُونا قارة ً لا تذعرونا=فنجفلَ مثل َ إجفال الظَّليم

وهم رماة الحدق في الجاهلية، وهم اليوم في اليمن، ينسبون إلى أسد، والنسبة إليهم: قاريّ، وهم حلفاء بني زهرة).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015