يعد الاحتجاج بالشاهد النحوي من أبكر صور الدراسات اللغوية فكتب (معاني القرآن) جمعت المحاولات الأولى في تحليل الآيات تحليلا لغويا وذكر ما تعلق بها من شواهد نحوية. وخير دليل على ذلك (معاني القرآن) للفراء الذي جمع بين التحليل اللغوي والتفسير الأثري لما يحتويه من: تفسير، ونحو، وصرف، وبلاغة. ودأب علماء عصره على دراسة القرآن حيث هو مصدر التشريع ومصدر حفظ اللغة العربية. فمن أساتذة الفراء: الرؤاسي (ت175ه)، والكسائي (ت189ه) ويونس بن حبيب (ت182ه) الذين لهم كتب في معاني القرآن أيضا.

وكتب (إعراب القرآن الكريم) تعتبر فرعا عن (المعاني) بتناولها أحد مقاصدها أو اهتماماتها وهو الإعراب، عنى أصحابها بالشواهد النحوية ككتاب (إعراب القرآن) للزجاج (ت 310ه) وأبي جعفر النحاس (ت 338ه).

وإذا عدنا إلى كتاب سيويه (ت 182ه) فإننا نجده يجمع بين دفتيه شواهد كثيرة من القرآن ومن الشعر والنثر وبعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. فغدا سوق الشواهد أمرا تقليديا يمارسه المصنفون في كل ماله علاقة بالدرس النحوي على تفاوت واضح بين المصنفات في جمعها وعرضها مع تأثرهم بما حفظوا من القرآن الكريم ومن الشعر وبما وعوا من كتب السابقين فبعضهم عنى بالشواهد من القرآن الكريم وأولاها عناية ففاقت الشواهد الشعرية عددا كما فعل ابن هشام في (شرح شذ ور الذهب) إذ بلغ عدد الآيات ست مائة وتسعا وخمسين (359) آية، وعدد الأبيات ثلاث مائة وتسع وثلاثين (339) بيتا، وكما فعل ابن معطي في كتابه (الفصول الخمسون) إذ بلغ عدد الآيات مائة وثلاثا وعشرين (123) آية، وعدد الأبيات سبعة وستون (67) بيتا. وبعضهم عنى بشواهد الشعر ففاقت في العدد الشواهد من القرآن الكريم كما فعل سيبويه في (الكتاب) إذ بلغ عدد الآيات أربع مائة وسبعا وأربعين (447) آية، وبلغ عدد الأبيات ألفا وخمس مائة (1500) بيتا.

وتأتي كتب التفسير لتستفيد مما ورد من شواهد في تفسير الآيات، فكتاب (جامع البيان) لابن جرير الطبري مثلا لم ينطق إلا من أرضية خصبة زرعت فيها الآراء النحوية، حتى إذا ما نضجت واستوت أعمل علمه الواسع وفكره الثاقب فاستفاد وأفاد. ومن خلال استقراءنا لهذا التفسير لمسنا عناية كبيرة بالشواهد النحوية، وقد أحصيت شواهد القرآن فوجدت عدتها ستة وعشرين ومائة (126) شاهد، وشواهد القراءات نحو خمسة وخمسين مائة (155) شاهدا، وهي نسبة عالية تبرز اهتمامه بالقراءات واعتماده عليها، وعدد الشواهد الشعرية نحو ثلاثة وأربعين ومائة (143) شاهد، أما الشواهد النثرية فأكثرها أمثلة تعليمية.

فاعتماد الطبري على المأثور في تفسير آي الذكر الحكيم وعنايته الفائقة بالقراءات لم يصرفه عن الاهتمام البالغ بالمباحث النحوية وكثرة الاستشهاد عليها حتى أصبح الإعراب معلما أساسيا من معالم منهجه في التفسير. نجده يفسر الآية من القرآن الكريم ويربط بينها والإعراب فيعدد آراء النحاة، ويوازن، ويرجح بينها ثم يذكر شاهدا أو أكثر على ما اختاره من توجه نحوي أو تفصيل مذهب من المذاهب. وكل ذلك وفق تمكن نحوي وقدرة في التحليل والاستنباط، جعلت من تفسيره اتجاها جديدا"إذ تجاوز المأثور إلى غيره، وتخطى التفسير المحكي إلى موضوعات أخرى تدخله في جانب منه في كتب التفسير العقلي بالرأي والاجتهاد، وتجعله نقطة تحول في تاريخ التفسير وإلتقاء مع بعض الاتجاهات الأخرى في التفسير، كما تجعله معلما من معالم نشأة التفسير العقلي" (9).ففي تفسيره لقوله:) غير المغضوب عليهم ((10) قال:"والقراء مجمعون على قراءة (غير) بجر الراء، والخفض بآيتها من وجهين:

أحدهما: أن يكون (غير) صفة لـ (الذين) ونعتا لهم فتخفضها إذ كان (الذين) خفضا، وهي لهم نعت وصفة، وإنما جاز أن يكون (غير) نعتا ل (الذين) و (الذين) معرفة، و (غير) نكرة، لأن الذين بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة (11). كالأسماء التي هي أمارات بين الناس، مثل: زيد وعمرو وما أشبه ذلك ... وفي النهاية يدلي الطبري برأيه فيقول: «والصواب من القول في تأويله وقراءته عندنا القول الأول وهو قراءة: (غير المغضوب عليهم) بخفض الراء من (غير) بتأويل أنها من صفة للذين أنعمت عليهم ونعمت لهم-لما قدمنا من البيان-إن شئت، وإن شئت فبتأويل تكرير (صراط) كل ذلك صواب حسن" (12).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015