بل والعالم كله في عصر الرسول، ومع ذلك فالقرآن على صواب وهذان العالمان، وهما يعكسان معارف عصريهما، هما المخطئان.

ويمكن أن نلحق بهاتين الآيتين قوله تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ... "، فقد فسر البيضاوي، وهو متأخر نسبيا (عاش في القرن الثامن الهجري)، عبارة "كأنما يصعد في السماء" على النحو التالي: "شبهه (أي شبه الله من يريد أن يضله)، مبالغة في ضيق صدره، بمن يزاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء، مثل فيما يبعد عن الاستطاعة. ونبه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود. وقيل: معناه: كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه". أما تفسير الآية في ضوء مكتشفات العلم التجريبي فهو أن الذي يضله الله يشعر بنفس ضيق الصدر الذي يحسه الصاعد في طبقات الجو العليا حيث الهواء مخلخل فلا تجد الرئتان كفايتهما من الهواء والأكسجين. وأنا، وإن لم أكن متخصصا في أي فرع من العلوم الطبيعية، يصعب على أن أوافق الدكتور موريس بوكاي، الذي يؤكد أن هذه الآية تعبر عن فكرة عادية تماما، والذي يخالف من يقولون إن فكرة ضيق التنفس كانت مجهولة عند العرب في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن وجود مرتفعات عالية تربو على 3500 متر في شبه الجزيرة العربية يجعل من غير المنطقي، في رأيه، القول بجهل صعوبة التنفس الناشئة عن الارتفاع. وتنهض مخالفتي للدكتور بوكاي على أساس أن الآية تتحدث عن "التصعد في السماء" وهو ما لم يكن متاحا لأي إنسان في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام (بغض النظر عن حادث المعراج) ولا فيما بعده ببضعة عشر قرنا، لا "التصعيد في الجبال" كما يفيد كلامه. كذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام، كما نعرف من سيرته الشريفة، لم يصعد غير جبلي حراء وثور، أولهما في فترة التحنث السابقة على البعثة، والثاني في طريقه هو وأبي بكر إلى يثرب. ولم ترد في السيرة أية إشارة، ولو من بعيد، إلى أي أثر لهذا الصعود على جهازه التنفسي عليه الصلاة والسلام. بل إني لا أذكر أن أحدا من كتاب السيرة في العصر الحديث ممن صعد هذين الجبلين قد ألمح إلى مثل هذا الأثر، على رغم حرصهم الشديد على تسجيل كل ما يعتريهم أثناء ذلك من تأثرات عضوية أو نفسية. ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد زار صنعاء، التي يشير إليها الدكتور بوكاي. بل إني أستبعد أن يكون سكان مثل هذه المدن العالية في ذاك العصر، حتى لو كانوا أحسوا بشيء من هذا، قد تنبهوا إلى السبب الحقيقي لذلك. وأحب أن أكرر القول، كيلا ننسى، أن القرآن يتحدث عن "التصعد في السماء" لا "التصعيد في الجبال". ثم ها هي كتب التفسير القديمة، لا تجدها حين تبلغ هذه الآية إلا تقول إن المقصود هو أن الكافر الذي أغلق قلبه يستحيل عليه الإيمان كما يستحيل على بشر أن يصعد في السماء، وهو ما يدل دلالة قاطعة على أن فكرة ضيق التنفس المشار إليها كانت مجهولة لدى هؤلاء المفسرين، الذين كانوا بلا شك يعيشون في ظل حضارة متقدمة أعظم التقدم بالقياس إلى الحياة البدائية التي كان يحياها عرب الجاهلية وعصر المبعث.

وثمة آية أخرى أراني، رغم عدم تخصصي كما سلف القول في أي من العلوم الطبيعية، مضطرا إلى أن أخالف، في تفسيرها، الدكتور بوكاي، الذي يكرر كلام المفسرين القدامى. وهذه الآية هي: "وهو الذي مرج البحرين: هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج، وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا". وفي تفسيرها يقول د. بوكاي: "معروفة تلك الظاهرة التي كثيرا ما تشاهد عن عدم الاختلاط الفوري لمياه البحر المالحة بالمياه العذبة للأنهار الكبيرة. ويرى البعض أن القرآن يشير إليها لعلاقتها بمصب نهري دجلة والفرات، اللذين يشكلان بالتقائهما بحرا، إذا جاز القول، طوله أكثر من 150كم، هو شط العرب. وفي الخليج ينتج تأثير المد ظاهرة طيبة هي انحسار الماء العذب إلى داخل الأراضي، وذلك يضمن ريا طيبا". والحقيقة أن هذا التفسير غير مقنع: فمن الناحية اللغوية يصعب علي أن أوافق العالم الفرنسي ومفسرينا القدامى على أن أداة التعريف في "البحرين" هنا هي للعهد، الذي قيل على أساسه إن "البحرين" المذكورين هما دجلة والفرات. إن

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015