قلت: وهذا الفقه قد درج عليه علماء الأمة من لدن الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يقع منهم اعتراض على هذا المنهج (تناول الآيات التي نزلت في الكفار على حال من يتلبس بها من المؤمنين) سوى ما ذكر البخاري ـ معلقًا ـ عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر، قال: ((وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ وَقَالَ إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِى الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)).
وهذا العمل الذي انتقده أبو عبد الرحمن ـ فيما يبدو ـ أنهم جعلوا الأوصاف التي يحتمل وقوعها من المؤمنين كفرًا مخرجًا من الملة، لما رأوها نزلت في سياق الكفار، ولم يُحكموا القياس في التنزيل، والفرق بين المؤمن والكافر في اعتبار الأصل فيهما، بل جعلوا مطلق الفعل كفرًا.
ولهذا تراهم عمِلوا بما تأوله، وقاتلوا المسلمين على ذلك، وهذا كافٍ في ثبوت فساد قولهم كما نبَّه له ابن عمر.
أما ما ذكره الإمام من جواز تنزيل الآيات التي نزلت في الكفار على حال بعض المؤمنين، فهو بمعزل عن هذا؛ لأن هذا التنزيل لا يُخرج المسلم من إسلامه، كما أن الوصف الذي جاء في سياق الكفار ليس وصفًا كفريًّا محضًا بحيث يُحكم على من تلبَّس به بأنه كافر، بل هو وصف يلحق الإنسان من حيث هو إنسان.
ولو تأمَّلت كثيرًا من النصوص التي نزَّلها الصحابة على أنفسهم أو على غيرهم لوجدتها من هذا القبيل، ومثال ذلك:
ما رُوي من أوجهٍ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قال الإمام مالك: ((عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ حِمَالُ لَحْمٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرِمْنَا إِلَى اللَّحْمِ فَاشْتَرَيْتُ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا فَقَالَ عُمَرُ أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ جَارِهِ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ أَيْنَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)))، والله أعلم وأحكم.