?كما وصف المؤمنون الخاشعون في سورة المؤمنون بقوله:] والذين هم للزكاة فاعلون [. وهذه الصفات هي ضد الصفات الواردة في سورة الماعون:] أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين. فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون [. فانظر إلى هذا التوافق العجيب. وصدق الله: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".
المثال الثاني قوله تعالى:] ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون، ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون [.
يقول الطبري في تفسير هاتين الآيتين:
ويوم ينادي ربك يا محمد هؤلاء المشركين فيقول لهم: " أين هم شركائي الذين كنتم تزعمون " أيها القوم في الدنيا أنهم شركائي؟
وقوله:] ونزعنا من كل أمة شهيدا [: وأحضرنا من كل جماعة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله من الرسالة ..
وقوله:] فقلنا هاتوا برهانكم [يقول: فقلنا لأمة كل نبي منهم التي ردت نصيحته وكذبت بما جاءها به من عند ربهم، إذ شهد نبيها عليها بإبلاغه إياها رسالة الله "هاتوا برهانكم" يقول فقال لهم: هاتوا حجتكم على إشراككم بالله ما كنتم تشركون مع إعذار الله إليكم بالرسل وإقامته عليكم بالحجج .. "
وقوله:] فعلموا أن الحق لله [يقول: فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة لله عليهم، وأن الحق لله والصدق خبره، فأيقنوا بعذاب من الله لهم دائم.
] وضل عنهم ما كانوا يفترون [يقول: واضمحل فذهب الذي كانوا يشركون بالله في الدنيا، وما كانوا يتخرصون ويكذبون. .
هذا ما قاله الطبري في هذه الآية، وبمثل هذا القول أخذ معظم المفسرين.
غير أن الفراهي الهندي يقول في مقدمة كتابه مفردات القرآن: ". ثم سوء فهم الكلمة ليس بأمر هين فإنه يتجاوز إلى إساءة فهم الكلام، وكل ما يدل عليه من العلوم والحكم، فإن أجزاء الكلام يبين بعضها بعضا للزوم التوافق بينها. مثلا كلمة " النزع" في -سورة القصص- تبين معنى " الشهيد" – هناك – فسوء فهمها صرف عن معنى غيرها. .
يريد بذلك الذين فسروا " النزع" بالإحضار وما شابهه – كما ذهب إلى ذلك الطبري وغيره-، والمعروف أن أصل النزع: جذب الأشياء من مقارها بقوة".
ومثل هذا الخطأ في معنى " النزع" جعل من الممكن تفسير " الشهيد" بـ " النبي" وبذلك اضطر المفسرون إلى التكلف في معنى الآية، نتيجة الخطأ في معنى " النزع" و معنى " الشهيد".
ولو أنهم تمسكوا بأصل المعنى " جذب الأشياء من مقارها بقوة " لعرفوا أن هذا لا يتناسب مع مقام " الشهيد" – الذي هو النبي – وأنه لا بد للشهيد من معنى آخر.
وقد بين الفراهي معنى الشهيد في كتابه " مفردات القرآن" فقال:
" الشهيد": الذي يشهد ويحضر. ويحمل على وجوه:
1 - من يشهد المشاهد العظيمة من القوم ويتكلم عن القوم، فهو لسان القوم، فما قال كان ذلك قول القوم، فهو رئيسهم وهم يذعنون لما قال.
وهذا كما قال تعالى:] ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون".
وقد فسر الفراهي في مذكراته التي وضعها بين يدي تفسيره " الشهيد" في الآية بأنه إمامهم في الكفر.
ويؤيد هذا التفسير ما جاء في سورة مريم في قوله تعالى:] ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا [.
حيث استعمل نفس فعل " النزع" واستعمل " الشيعة" بدل الأمة، وبين معنى الشهيد بأنه أشدهم على الرحمن عتيا".
وبناء على هذا يستقيم معنى الآية: ونزعنا من كل أمة شهيدا – إمامهم في الكفر وأشدهم عتوا – فقلنا – لهؤلاء الأئمة العتاة-: هاتوا برهانكم – على ما كنتم تزعمون لي من الشركاء – فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون – من الشركاء -.
ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى:] ويوم يناديهم أين شركائي قال قالوا آذناك ما منا من شهيد. وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص [.
ولو أننا تتبعنا الآيات التي تنتهي بقوله تعالى:] وضل عنهم ما كانوا يفترون [لرأيناها تؤيد هذا المعنى، مما لا يدع مجالا للشك في صحة هذا التفسير.
¥