إن مصطلح السنن في المجال الذي نحن بصدده قد أخذ مفهومه واكتسب معناه الاصطلاحي بنفس المنهج الذي تخلق عليه في مجال العلوم الإسلامية المتخصصة، بحيث إن ظهوره هو أيضا ارتبط بظهور علم الاجتماع في العالم الإسلامي، وبالتحديد مع مدرسة المنار في التفسير، ومع جذوره الفكرية في مجلة العروة الوثقى مطلع القرن الرابع عشر الهجري وأواخر القرن التاسع عشر الميلادي (27). واعتمادا على المعنى اللغوي والمعنى الشرعي الذي تتبوأه لفظة السنن في السياق القرآني، يمكننا الخلوص إلى القول –في يسر- بأن السنن هي القوانين التي تحكم نظام العالم وفق إرادة الله الخالق باطراد وثبات، تأسيسا على أن كلمة "سنة" تعني مما تعني القوانين المطردة التي لا تتخلف إلا في قضايا السنن الخارقة (المعجزات) وإن كان هذا الاطراد في الحياة البشرية لا يرى واضحا كما هو عليه الأمر في قوانين المادة (28).
وإذا كان القرآن قد أثبت أن للكون المادي الطبيعي قوانين وسننا تحكمه، يمكن تسميتها بالسنن التسخيرية (29) أو السنن الكونية. فإن ثمة حقيقة أخرى تبرز واضحة فيه أيضا، ذلك "أن مساحة كبيرة في سوره وآياته قد خصصت لمعالجة حالات الأمم السابقة بأبعاد واتجاهات مختلفة ... لتجارب عدد من الجماعات البشرية. تتميز بالتركيز والكثافة للسنن التاريخية التي تحكم حركة الجماعات البشرية عبر الزمان والمكان، مرورا بمواقف الإنسان المتغيرة ... وتبلغ هذه المسألة حدا من الاتساع في القرآن، بحيث إن حل سوره لا تكاد تخلو من عرض لواقعة تاريخية أو إشارة لحدث ما أو تأكيد على قانون أو سنة تتشكل بموجبها حركة التاريخ" (30). بل إن ذكر السنن والتنصيص عليها في القرآن الكريم لم يأت إلا عقب سرد تجارب الأمم السالفة والتعقيب عليها بما يناسب تلك التجارب.
ولأهمية هذه السنن في حياة الإنسان –باعتباره سيد الكون والخليفة فيه- نجد القرآن يشد أنظار المخاطبين وعقولهم إلى النظر والاعتبار والتبصر في ملكوت السماوات و الأرض (31)، والاعتبار بأحوال المجتمعات الغابرة والكشف عن أسرار هذا الكون العجيب وقوانينه التي يسير وفقها، وطرق هذه القوانين في الأنفس والآفاق.
وتصل عناية القرآن بهذه القضية إلى حد النكير على أولئك الذين لن يستعملوا وسائلهم المعرفية الخلقية في معرفة هذه السنن والاستفادة منها في الحياة العملية إصلاحا لأي خلل وضمانا لصواب المستقبل (32).
إن النظر في ملكوت السماوات و الأرض يهدينا إلى معرفة السنن الكونية (سنن التسخير) والنظر في تاريخ الأمم وأحوال المجتمعات –رقيا وانحطاطا- يهدينا إلى معرفة السنن الاجتماعية، وكلاهما –تبعا للمنهج القرآني- ذو أهمية في الحياة العملية للإنسان. غير أن التمييز بينهما يغدو أمرا ضروريا تقتضيه منهجية البحث للتفريق بين الظواهر الطبيعية وكيف تحدث، والظواهر الاجتماعية وكيف تعمل ... وكل في فلك إفادة الإنسان فاعل (33).
فالظواهر الطبيعية أمور تحدث تلقائيا وفق سنن التسخير الربانية ودون أن يكون للإنسان شأن فيها. أما الظواهر الاجتماعية فهي تلك التي تنجم عن تجمع الناس وتفاعلهم مع بعضهم، ودخولهم في شبكة من العلاقات المتبادلة (34) وتصرفاتهم متداخلة.
فالفعل البشري بالنسبة للظواهر الاجتماعية هو الذي تتشكل بموجبه حركة التاريخ زمانا ومكانا، مقدمات ونتائج، وأمر البشر هذا وما يترتب عليه من تبعات يجري وفق قواعد ثابتة وسنن مطردة، مؤطرة بمشيئة الله وإرادته في خلقه وعادته فيهم (35). عرفتها مؤلفات الفكر الإسلامي المعاصر بأنها القوانين والنواميس الإلهية التي تحكم سير المجتمعات البشرية على وجه العادة والاطراد (36).
هذا وإن التصور الإسلامي لسنن الاجتماعية الذي يمكن أخذه من القرآن الكريم ومن توظيف معنى السنة لغويا هو: كونها نواميس تحكم نظام الاجتماع الإنساني والعمران البشري على وجه الاطراد والثبات والشمول. وبهذا المفهوم عرف المعاصرون السنن الاجتماعية في القرآن الكريم بأنها: "القوانين المطردة والثابتة التي تشكل إلى حد كبير ميكانيكية الحركة الاجتماعية وتعين على فهمها" (37). ورغم ما وصفت به السنن الاجتماعية من الثبات والاستمرارية، فإنها تتصف أيضا بالنسبية والتغير، لأن الواقع البشري ليس منضبطا كانضباط الكون المادي. ولعل السبب الرئيس في هذا كون الإنسان
¥