ـ[عزام عز الدين]ــــــــ[27 Jun 2008, 12:26 م]ـ
موسى والخضر .. فقه «الانطلاق» إلى الواقع
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=48251&issueNo=185&secId=23
2008-06-26
أحمد خيري العمري*
السرد القرآني لقصة موسى والخضر يمتلك عدة مستويات للقراءة، كل مستوى منها لا يلغي الآخر، بل يتكامل معه، ويتدرج معه إلى المستوى العام الشامل، وكل هذه المستويات بريئة تماماً مما رسب في الخيال الشعبي من القصة، التي حولت الخضر إلى شخصية أسطورية لم تذُق طعم الموت، ونسجت في ذلك القصص والحكايات، وجعلت له مقاما يستحق النذور في كل بلد، وهذا كله هو النقيض تماماً، ليس من السرد القرآني لهذه القصة فحسب، بل من كل ما أراده لنا القرآن ومن كل مقاصده وأهدافه.
محور قصة موسى والخضر، في جوهرها، هو النزول بالفكر والعقيدة إلى الواقع، إلى التفاعل الاجتماعي الحقيقي الذي يدخل هذا الفكر كطرف في معادلة البناء الاجتماعي، إنه النزول بالنظرية من إطار التنظير إلى إطار التطبيق، حيث المحك الحقيقي لمصداقيتها، فقوة أية نظرية، في النهاية، ليست في تماسكها ضمن إطارها الفكري وجدالها مع النظريات الأخرى، ولكن قوتها هي في صمودها عندما تتفاعل مع الواقع وتمكنها من الإثمار فيه والوصول إلى أهدافها عبره .. امتحان أية نظرية هو في تمكنها من إثبات أن ما تنادي به ليس مجرد شعارات برّاقة، بل هو حقيقة يمكن الوصول إليها .. والانتقال من الإطار النظري إلى الإطار التطبيقي والنجاح هناك أصعب بكثير من البقاء في أسر النظرية .. قصة موسى والخضر تفتح أعيننا على ذلك، فإذا بها تقدم لنا رؤية جديدة للعلاقة بين الشريعة والحياة، وتقدم لنا زاوية أكثر انفراجاً ننظر فيها ومن خلالها لكلٍّ من أحكام الشريعة وأحكام الحياة، فإذا بالاثنين يلتحمان معاً، بدلاً من انفصالهما المزعوم، وبدلاً من الهوة التي يشتكي منها الجميع، نجد ذلك التماهي بين الاثنين الذي يرفع مستوى الحياة، ويخرج الشريعة من رفوف الكتب وأطر التنظير.
على درب الالتحام بين الشريعة والحياة، تأخذنا قصة موسى والخضر، من الرؤية الجزئية للنصوص، إلى الرؤية الشمولية لها، ومن الفهم «التبعيضي» إلى الفهم «الشمولي»، ومن الألواح الحجرية الجامدة التي نحتت عليها هذه النصوص، إلى واقع تشكله النصوص.
أول ما يلفت النظر في السياق القرآني هو أن موسى، كليم الله، صاحب المنزلة الرسولية المهمة، والأعلى قطعاً في زمانه، لم يتردد -رغم مكانته- في السفر لغرض التعلم وطلب العلم، ولكن فلننتبه هنا أن هذا ليس مجرد تواضع طالب العلم، بل معرفته المسبقة أن النزول من المكتبة أو البرج العالي يتطلب علماً إضافياً، علم ما بين السطور، علم روحية النص ومقصده، وذلك لا يحدث إلا بالجمع بين النص والواقع، عبر رؤية شمولية لكل من النص والواقع، وهنا تأتي تلك الإشارة المذهلة إلى عزم موسى على الوصول إلى مجمع البحرين {وَإِذْ قالَ مُوسَى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف: 60]، فمجمع البحرين هنا، كناية عن ذلك التلاحم والالتقاء الفعال بين أمرين مهمين، بين النص -الذي سيظل مهماً حتى في حرفيته- وفقهه وفهمه بشكل يجعل حروفه تثمر وتنتج واقعاً جديداً .. شيء آخر يلفت النظر هنا، وهو أن موسى يحدد الرشد، كمطلب أساس، وليس العلم فحسب {قالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكُ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 66]، فليس العلم هو ما ينقص موسى، ولكنه يريد الرشد، أي: كيف يكون هذا العلم الذي عنده ضمن منظومة موصلة إلى الحق؟ أي أنه ليس العلم المجرد .. ليس العلم فحسب. بل العلم الموصل إلى بناء المجتمع من جديد. يلفت النظر أيضاً هنا في ردّ الخضر أمران اثنان، الأول: أن الخضر طالبه بالصبر ابتداءً {قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 67]، وهذا يشير إلى صعوبة المهمة ووعورة الطريق الفاصلة بين النقطتين، الثاني: هو أن الصعوبة يحددها الخضر في «عدم الإحاطة» {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68]، أي: أن المشكلة هي في فهم تجزيئي، فهم تبعيضي، لا يرى من الأمور غير بعض الجزئيات التي تجعل من الإثمار ومن إنتاج الواقع الجديد
¥