أن يصون مجلسه عن اللغط، فإن اللغض تحته، وعن رفع الأصوات واختلاف وجهات البحث. قال الربيع: كان الشافعي إذا ناظره إنسان في مسألة فغدا إلى غيرها يقول: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد، ويتلطف في دفع ذلك في مباديه قبل انتشاره وثوران النفوس. ويذكر الحاضرين بما جاء في كراهة المماراة، لا سيما بعد ظهور الحق، وأن مقصود الاجتماع ظهور الحق وصفاء القلوب، وطلب الفائدة. وأنه لا يليق بأهل العلم تعاطي المنافسة والشحناء لأنها سبب العداوة والبغضاء، بل يجب أن يكون الاجتماع ومقصودة خالصاً لله تعالى ليثمر الفائدة في الدنيا والسعادة في الآخرة، ويتذكر قوله تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) ، فإنه يفهم أن إرادة إبطال الحق أو تحقيق الباطل صفة إجرام فليحذر منه.
أن يزجر من تعدى في بحثه، أو ظهر منه لدد وسوء أدب، أو ترك إنصاف بعد ظهور الحق، أو أكثر الصياح بغير فائدة، أو أساء أدبه على غيره من الحاضرين أو الغائبين، أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه، أو نام أو تحدث مع غيره أو ضحك، أو استهزأ بأحد من الحاضرين، أو فعل ما يخل بأدب الطلب في الحلقة، وسيأتي تفصيل هذا كله - أن شاء الله تعالى - بشرط أن لا يترتب على ذلك مفسدة تربو عليه. وينبغي أن يكون له نقيب فطن كيس درب يرتب الحاضرين، ومن يدخل عليهم على قدر منازلهم، ويوقظ النائم، ويشير إلى من ترك ما ينبغي أو فعل ما ينبغي تركه ويأمر بسماع الدروس والإنصات لها.
أن يلازم الِإنصاف في بحثه وخطابه، ويسمع السؤال من مورده على وجهه وإن كان صغيراً، ولا يترفع عن سماعه فيحرم الفائدة، وإذا عجز السائل عن تقرير ما أورده أو تحرير العبارة فيه لحياء أو قصور، ووقع على المعنى عبر عن مراده، وبين وجه إيراده ورد على من رد عليه، ثم يجيب بما عنده أو يطلب ذلك من غيره، ويقصد بكلامه النصح والإرشاد وطلب النجاة، وما يعود نفعه على الكل، ويكلم كل أحد على قدر عقله وفهمه، فيجيب بما يحتمله حال السائل، ويتروى فيما يجيب به، وإذا سئل عما لم يعلمه قال: لا أعلم أو لا أدري فمن العلم أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم، أو الله اعلمِ، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله اعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. وعن بعضهم: لا أدري نصف العلم.
وعن ابن عباس: إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وقيل: ينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري لكثرة ما يقولها. واعلم أن قول المسؤول ما أدري لا يضيع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، لأن المتمكن لا يضره عدم معرفة بعض المسائل، بل يرفعه قوله لا أدري، لأنه دليل على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، وحسن تثبته.
وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف، وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته، وقلت معرفته، لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، ولا يخاف من سقوطه من نظر رب العالمين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشتهر خطؤه بين الناس، فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم بما احترز عنه. وقد أدب الله تعالى العلماء بقضية موسى مع الخضر عليهما السلام، حين لم يرد موسى العلم إلى الله عز وجل، لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك؟
أن يتودد لغريب حضر عنده ويبسط له لينشرح صدره، فإن للقادم دهشة، ولا يكثر الالتفات والنظر إليه استغراباً له، فإن ذلك يخجله، وإذا أقيل بعض الفضلاء وقد شرع في مسألة امسك عنها حتى يجلس، وإن جاء وهو يبحث في مسألة أعادها له أو مقصودها، وإذا أقبل فقيه وقد بقي لفراغه وقيام الجماعة بقدر ما يصل الفقيه إلى المجلس، فليؤخر تلك البقية ويشتغل عنها ببحث أو غيره إلى أن يجلس الفقيه، ثم يعيدها أو يتم تلك البقية كيلا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.